«الدولة الكردية» هذا هو هاجس تركيا المخيف الذي لا ينتهي أبدا، وأن زاد زخمه، وربما استفحل وتضخم ، خلال السنتين الأخيرتين، بالتوازى مع فشل المفاوضات التي دشنها وراعاها رجب طيب اردوغان عندما كان رئيسا لحكومة العدالة والتنمية مع منظمة حزب العمال الكردستاني الإنفصالية وزعيمها عبد الله أوجلان، القابع سجينا منذ عقدين تقريبا بجزيرة إمرالي ببحر مرمرة غرب إسطنبول والتي تزامنت بدورها مع تطورات الحرب الأهلية الضروس في الجارة السورية، تاركا في الوقت نفسه القلق بل والرعب في نفوس صناع القرار بالأناضول الذي يسكنه ملايين الأكراد وغالبيتهم يتركزون بجنوب شرق البلاد ومدنه المحاذية والمتداخلة للشمالين السوري والعراقي، ينتظرون إشارة طال إنتظارها منها ينطلقون إلى حلمهم الأبدي، في جغرافية لها تضاريسها المستقلة يكونون هم فقط عنوانها، وهذا هو بيت القصيد . ولأن الحكم الاردوغاني، نجح بشق الأنفس في إستفتاء التعديلات الدستورية الذي جري 16 إبريل المنصرم وكرست نتائجه المتواضعة جدا نظام رئاسي بصلاحيات مطلقة، وهو ما لم يكن ليحدث لولا التلاعب، فضلا على أنه استبقه باللعب على وتر النعرات القومية الشوفينية رافعا شعاراته الأربعة: لغة وأمة وارض وعلم واحد ، لم يعد أمامه مفر سوى أن يستمر وبشكل أكثر شراشة وصرامة (خطابيا وإنشائيا وهو ما سيتضح فيما بعد) للحيلولة دون إقامة أي كيان على تخومه أو فيما ورائها أيا كانت تسميته «حكم ذاتي» أو «فيدرالي» فكلاهما حتما سيفضيان في النهاية إلى تحقيق ما ناضلت بلاده طوال أربعة عقود من أجل ألا يحدث. وبما أن الحاصل في الشمال السوري، ينبأ بما هو معاكس تماما ل «وحدة الجمهورية التركية ونسيجها الاجتماعي»، كان لابد لأنقرة أن تحسم أمورها وتأخذ بزمام المبادرة لتعلن على لسان رئيسها «نفير الحرب من خلال إستعدادها لعملية عسكرية هي أشبه ب «بحملة مقدسة» تعيد إلى الأذهان أخرى مشابهة ألا وهي «درع الفرات» التي استمرت سبعة شهور وستة أيام، فإما أن نكون أولا نكون. لكن يبدو أن الأمر ليس سهلا أبدا، والأسباب عديدة، فدرع الفرات الأولي لم تؤد إلى ما كان مأمول منها من نفوذ تركي واسع ومهيمن خلافا لما أعلن في مستهلها، بيد أن محاولاتها السابقة اعتمادا على الجيش السوري الحر الي ساندته ودعمته للسيطرة على «تل رفعت» باءت بالفشل والأهم أن ارقام الضحايا من العسكريين الأتراك فاجأت السلطات والدليل انها جاهدت للتقيل من أثاره على عوائلهم هذا أولا. وثانيا المتغيرات الجديدة التي طرأت على الأرض في البلد الذي تتناحر فيه عشرات الفصائل والمليشيات بالوكالة نيابة عن نافذين دوليين وأقليميين، وسمائه باتت مسرح لمقاتلات عشرات الدول، وتمثلت في دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية بقوة لافتة برضاء روسي، من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية وذراعها وحدات حماية الشعب وإمدادها بالسلاح الثقيل. رغم احتجاجات متكررة من تركيا التي تعتبر المقاتلين الأكراد السوريين إرهابيين. كل هذا جعل اردوغان يتحدث في الثالث والعشرين من يونيو الماضي لصحيفة «إيزفيستيا» الروسية، قائلا لمراسلها نصا «تجري في سوريا حاليا مسارات سلبية، فإذا ما أدت إلى ظهور تهديدات على حدودنا، فسوف نتفاعل معها»، وأضاف « لقد سبق وأن أعربنا عن استعدادنا لتحرير منبج والرقة من سيطرة المتطرفين، لكن الشركاء الغربيين في التحالف الدولي فضلوا الرهان على التشكيلات الكردية». وهكذا ووفق لما نشرته صحيفة «يني شفق»، المقربة منه بعد هذه التصريحات بأسبوع ، تخطط القوات التركية بالتعاون مع مسلحي «جيش سوريا الحر»، للتقدم نحو مدينة تل رفعت مجددا ومطار منج العسكري، الذين تسيطر عليهما الوحدات الكردية العدو اللدود لنظام اردوغان، الصحيفة ذاتها توقعت «نشوب معارك ضارية خلال الأسبوعين المقبلين للإستيلاء على هذين الهدفين الإستراتجيين في المنطقة»، وبالفعل رُصدت حالات إطلاق النار بين القوات التركية والأكراد، ذلك على الرغم من أن مصادر إعلامية ذكرت أن هدف أنقرة هو عزل « عفرين « أحد مدن حلب وليس الاستيلاء عليها لكن فاتها وهذا ما قاله فرهاد باتييف عضو المجلس الوطني لكردستان أن سكان هذا الجزء الحيوي يستعدون لأسوأ الاحتمالات ما ينذر بمقاومة ومواجهات بالشوارع والازقة ليصبح السؤال هل حكام الأناضول الذين لم يفيقوا بعد من فاتورة درع الفرات الاولي على استعداد لتحمل ضحايا جدد قد لا يكونوا بالعشرات وفي هذه الحالة ستحل الكارثة . في السياق نفسه نبهت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا والمجهزة عتادا متطورا من إمكانية إندلاع مواجهات ضارية مع الجيش التركي إذا ما هاجم الأخير المناطق الخاضعة لسيطرتها ، بيد أنها شككت في ما تقوله تركيا الرسمية بشأن « عفرين « مؤكدة أن هجوما محوره إضافة إلى إحباط عملية تحرير الرقة، التي تشارك فيها التشكيلات الكردية ثم الأنقضاض علي عفرين بهدف الأستيلاء على كامل الجيب الواقع ضمن منطقة الحكم الذاتي والمعنون بالأسم الكردي «روج آفا» ، ومن ثم على الأمريكيين عمل شيء ما وفي جميع الأحوال سيفعلون ، فماذا عساهم الاتراك أن يفعلوا لا شئ ؟ وكان طبيعيا أن تثير عبارات أردوغان التحريضية قلق موسكو وواشنطن معا فنزاعا جديدا في سوريا لن يصب في مصلحتيهما ومن ثم سيعملان على منع أنقرة من القيام بأي عمل متهور. في ظل هذه التطورات بأمواجها المتلاطمة طرأ ما هو غير متوقع وخطورته أن مسرحه كان العدالة والتنمية الحاكم، إذ تعالت اصوات النواب الأكراد المنضوين تحت لوائه معلنين تاييدهم لقرار حكومة اقليم كردستان بإجراء إستفتاء في 25 سبتمبر القادم حول استقلال شمال العراق، وهذا يناقض ما اعلنه رئيس الجمهورية اردوغان برفض قرار الاستقلال والتأكيد على انه سيكون خطأ فادحا وان المبدأ الاساسي للسياسة التركية تجاه العراق هو الحفاظ على سلامة اراضيها ووحدتها السياسية وان هذا المبدأ عنصر مهم لاستقرار العراق. غير أن المعارضين وعلى راسهم غالب انصاري اوغلو نائب مدينة دياربكر عن الحزب الحاكم أكدوا ان القرار هو حق ممنوح للاكراد في الدستور العراقي وينبغي على الجميع احترام هذا الحق .