روسيا تفرج عن سفينة مصرية محملة ب 63 ألف طن قمح بعد احتجازها أكثر من شهر    البنك المركزي المصري يصدر قواعدا جديدة لتملك رؤوس أموال البنوك وعمليات الإندماج والاستحواذ    الاقتصاد الأمريكي يضيف 175 ألف وظيفة في أبريل ومعدل البطالة يرتفع إلى 3.9%    «المركزي للتعمير» ينفذ محور الخارجة/ سوهاج بطول 142 كم    موظفون ب ميتا ينتقدون تحيز الشركة ضد المحتوي الداعم لفلسطيني    بعد الانتصار على التعاون، ماذا يحتاج الهلال للفوز بالدوري السعودي؟    غيابات مؤثرة تضرب بايرن ميونخ قبل مباراته أمام شتوتجارت    برشلونة يوافق على انتقال مهاجمه إلى ريال بيتيس    العناية الإلهية تنقذ شابا انقلبت سيارته في ترعة يالغربية (صور)    فيلم السرب.. أحمد السقا يوجه الشكر لسائق دبابة أنقذه من الموت: كان زماني بلوبيف    المؤتمر الدولي لكلية الألسن بجامعة الأقصر يعلن توصيات دورته الثالثة    تخصيص 8 مكاتب لتلقي شكاوى المواطنين بالمنشآت الصحية في الوادي الجديد    آصف ملحم: الهجمات السيبرانية الروسية تجاه ألمانيا مستمرة .. فيديو    الروس والأمريكان في قاعدة عسكرية واحدة .. النيجر على صفيح ساخن    أمين القبائل العربية: تأسيس الاتحاد جاء في توقيت مناسب    طليعة المهن    إعفاء 25% لطلاب دراسات عليا عين شمس ذوي الهمم من المصروفات الدراسية    علاء نبيل: لا صحة لإقامة دورات الرخصة C وهذا موعد الرخصة A    هل تتكرر قصة تشافي؟ توخيل: هذا ردي بشأن الاستمرار مع بايرن    استقبال حافل من جمهور مني الشاذلي لأبطال فريق الجودو.. فيديو    مدير مشروعات ابدأ : طرح مشكلات المستثمرين على موقع المبادرة وحلّها لإتمام أنشطتهم    ميكانيكي يشعل النار في أرض زراعية بأسوان بسبب خلافات جيرة    ضبط ربع طن فسيخ فاسد في دمياط    تشيع جثمان عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف    بالإنفوجراف.. 8 تكليفات رئاسية ترسم خريطة مستقبل العمل في مصر    الأمين العام للأمم المتحدة: أشعر بالصدمة إزاء مقتل الصحفيين في حرب إسرائيل على غزة    إلهام شاهين تحتفي بماجدة الرومي بعد إحيائها حفلا بقصر عابدين: نورتي بلدك الثاني    باتمان يظهر في معرض أبو ظبي للكتاب .. شاهد    في تكريم اسمه |رانيا فريد شوقي: أشرف عبد الغفور أستاذ قدير ..خاص    دعاء يوم الجمعة عند الغروب.. استغل اليوم من أوله لآخره في الطاعات    بالصور| انطلاق 10 قوافل دعوية    رغم تحذيرات دولية.. هل تقتحم قوات الدعم السريع الفاشر؟    حسن بخيت يكتب عن : يا رواد مواقع التواصل الإجتماعي .. كفوا عن مهاجمة العلماء ولا تكونوا كالذباب .. " أليس منكم رجل رشيد "    حبس 9 أشخاص على ذمة التحقيقات في مشاجرة بالمولوتوف بين عائلتين ب قنا    مُنع من الكلام.. أحمد رزق يجري عملية جراحية في "الفك"    تنفيذ إزالة فورية لتعدٍّ بالبناء المخالف بمركز ومدينة الإسماعيلية    الصحة: تكثيف الرقابة على أماكن تصنيع وعرض وبيع الأسماك المملحة والمدخنة    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    موعد بدء امتحانات الصف الخامس الابتدائي آخر العام 2024 محافظة القليوبية    أخبار الأهلي : اتحاد الكرة يعلن عن تطور جديد في أزمة حسين الشحات ومحمد الشيبي    انتظروا الشخصية دي قريبًا.. محمد لطفي يشارك صورة من كواليس أحد أعماله    محافظ الغربية يهنئ البابا تواضروس بعيد القيامة    في اليوم العالمي وعيد الصحافة.."الصحفيين العرب" يطالب بتحرير الصحافة والإعلام من البيروقراطية    الشكاوى الحكومية: التعامُل مع 2679 شكوى تضرر من وزن الخبز وارتفاع الأسعار    الاستعدادات النهائية لتشغيل محطة جامعة الدول بالخط الثالث للمترو    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    خطيب المسجد الحرام: العبادة لا تسقط عن أحد من العبيد في دار التكليف مهما بلغت منزلته    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    دليل السلامة الغذائية.. كيف تحدد جودة الفسيخ والرنجة؟    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاحونة

دون كل الغرف فى بيتنا كانت غرفتى الجانبية هى التى فتحت عينى على الدنيا فيها أول ماجئت إلى الحياة، فتحت عينى فإذا تلك الطاحونة الحجرية الكبيرة موجودة، كأنها هناك منذ الأزل.. «هى أكبر طاحونة فى الناحية كلها»، كذا قالت أمى فنفشت ريشى فرحاً وملأنى الفخر لما سمعت إنها «أكبر طاحون»
وعرفت أنها كانت فى الأصل من مواريث عائلة حضرة الماجد المحترم «ليو» فلما جاءت عملية الإصلاح، ضمن مشروع إصلاح الأراضى يعني.. اعتبروها غنيمة من غنائم النصر ومنحوها لنا، علماً بأنها كانت من النوع القديم الذى يدور، كما تدور السواقى بالبهائم، حيث يعلقون خشبتها فى أعناق الحمير فتدور بها وتتحرك بخلاف الطواحين الأخرى التى كانت تدار بواسطة الأجراء المساكين، فكان الأجير من هؤلاء، وهو فى الغالب صبى ضئيل الجسم، يظل يلف ويدور بها ويقول للناس إنها تدور، أحيانًا ومع تقلب الأحوال، بيد البشر فتصبح على هذا الأساس «طاحونة يدوية».
ذاكرتي، منذ يومها الأول، ارتبطت بهذه الطاحونة، فمما أذكره أنى كنت أجلس على الحصير عند الباب وأتطلع ببلاهة إلى جارتنا «سيتانيانغ» ترفع قضيب الدوران إلى صدرها وتظل تلف به فيتحرك الحجر الدوار بلاانقطاع، يتقلّب هديره البطيء ويطنّ فى كل لفة بصوت رتيب باعث على الملل، بينما فتات القمح الأصفر الذى لوّحته الشمس وجعلته غامقا كان يتساقط من فتحتين فى منتصفهما فيتكوم تلالاً عند المسند الخشبى المثبت فى قاعدتها. لم يكن هناك مايمنع من أن تُحمل إليها أحيانا حبوب الذرة، فنعرف أن موسم رأس السنة قد صار على الأبواب، كنت أجد طحين القمح، أيامها، ينزل فى لون أبيض صاف. أجلس مكانى على الحصير وأمام عينى تظهر الجارة، رائحة غادية، فكنت أعرف أنها حضرت أو ذهبت مشغولة ببعض شئونها، كذلك كنت أرى أمى وهى تدور بالطاحونة والحجر يطن مدوياً، يدور على مهل وكل الأشياء تتوارى وراء دكنة غبار، تتكاثف سحاباته أمام عينى ثم تتلاشى فى المدى وتتجمع ثانية، يتطوّح رأسى مائلًا والنعاس يغلبنى فأنام على الحصير.
تسع سنوات أتممتها من العمر يوم أن جاءت سنة ألف وتسعمائة وسبعون، يومها سمعت أن القرية المجاورة صار عندها طاحونة حديدية تدور بزيت الديزل، فما أن يعلق السير الجلدى بالطارة الدائرية حتى تزمجر وينطلق أزيزها، فما هى إلا ساعة من الزمان حتى تكون قد طحنت عدة جينات (كيلوغرامات) من القمح، فأصبح كل من كانت له طاحونة حجرية من الأهالى يستغنى عنها ويذهب بالقمح إلى الماكينة الحديد، لكن بيتنا لم يتزحزح عن ماكينته لظروفه المالية الصعبة، لم يكن باليد حيلة.
فتاة وحيدة كانت تأتى بصحبة سيتانيانغ اسمها «جوتسي» (لولي) تصغرنى بسنتين، مسكنها أمامنا وجهاً لوجه لكن بميل خفيف عن ناصية الشارع، ولما كانت العلاقة بين الكبار طيبة جدًا فقد كان الود بين الصغار آخذًا حقه بالتمام، صرت ألهو أيام الصبا مع جوتسي، أفرح بلعبى معها فرحة تفوق الوصف وكان يأتينا صوت ماكينة الطحين من القرية المجاورة يجيئنا كأنه قريب لصق الأسماع، كنا بخبث الأطفال وأسرارهم الغامضة نسترق الخطى خفية إلى مطحنة الدقيق نتطلع إليها وتخفق قلوبنا دهشاً، أحسست يومًا أنى ارتكبت جرماً فتوسلت إلى الفتاة أن تطوى السر فما فرط منها البوح لأحد، لم تكن ساعاتنا كلها صافية بل كثيرًا ما انزوى كلٌ منا جانبًا ووقع بيننا الكدر، وبينما كان وجهى مشققا دميم الخلقة بدت جوتسى لطيفة الشكل ناعمة كأنثى فهد، فى طباعها شيء من عافية الفهود إذ كان يدب بيننا الشجار أحيانًا وأعجز عن مغالبتها فتنهال عليّ ضرباً قارحاً، تهرول إلى أمى تشتكى لها باكية، تقول: أيرضيك ماجري.. ؟
جنباً إلى جنب جلستُ وجوتسى فى مدرسة القرية، أقبل علينا أحد المعلمين، اسمه «تشو»، لم يكن قد تجاوز منتصف العمر بكثير، فى خلقته تشوّه ظاهر، يمشى بظهر محدودب ووسطه كمثل قوس منثن؛ فكنا نطلق عليه «ذيل الخنزير» دون أن يجسر على إظهار ضيقه من هذه التسمية، وقيل إنه أثناء توليه إدارة المدرسة فى وقت من الأوقات لم يكن يتورع عن استعمال أقسى درجات الحزم والشدة مع التلاميذ، فلما جاءت أيام «الثورة الثقافية» انقلب عليه تلاميذه الذين اكتووا بنار قسوته فأذاقوه الهوان، لم تأخذهم به رحمة حتى بلغ من فتكهم به أنه صار يبول فى بنطاله هلعاً، لطالما بطشوا به وصمد لهم. قيل إنه تعلم الدرس جيداً ولم يعد بحاجة إلى مزيد من الوعى الثوري، ثم كان وهو يدرس لنا يسكت أحيانا ويبربش بعينيه، يزرهما ويتطلع إلى السقف دون أن يزجر الطلبة الذين تفاقم ضجيجهم حتى بلغ عنان السماء، كثيرًا ماكنا نقوم فنحمل حقائبنا، نخرج من الفصل قبل أن ينتهى من الشرح ونتسكع فى بعض الطريق، وليس فى الحقيبة سوى كراستين تحملان صورة طفل يرفع رمحاً بشرابة حمراء وقلمًا رصاصيًا انقصف سنه وتضعضعت حوافه تحت أسنان حامية حاولَتْ أن تقوم بدور مبراة فقضمت ماحوله وأبرزت السن من مكمنه. ذات مساء هربنا أنا وجوتسى من المدرسة بعد بداية الحصص بوقت قصير جداً، اتفقنا أن نذهب إلى حوش بيتنا ونلعب الكريات الزجاجية على أن يتلقى المغلوب على رأسه «خبطة أبى فروة» أى أن يضرب بعقلة أصبع على مقدم دماغه، وقعت جوتسى فهممت بأن أضربها كما جرى الاتفاق وإذا بها تثور غاضبة وتثب عليّ وتدفعنى أسفل ذقنى برأسها فتطرحنى أرضاً وتطأ بطنى وتتفل عليّ، لم أدر بنفسى إلا وقد قمت إليها فجذبتها من ذراعها وعضضتها، طفقنا ننتحب معًا.
ذاك الوقت، كانت أمى مشغولة مع سيتانيانغ بطحن القمح فى الغرفة الجانبية، فخرجتْ مسرعة على صوت الجلبة والعراك الدائر، قالت: «ارحموني..ماذا جرى ثانية؟»
«ابنك عضني.» رفعت جوتسى يدها المجروحة وعيونها طافحة بالدمع.
«هى التى عضتني.» قلت باكياً.
انهالت أمى بكفها الكبيرة على إليتي، مثلما نالت جوتسى نصيبها من العقاب لكنه كان عقابا تافها أقرب إلى أن يكون مجرد توبيخ شكلى لايؤذى شعرة فى أقفيتنا، ومع ذلك فقد كان البكاء موفور السخاء بدمع حار.
فاض الكيل بأمي، قالت: «وتبكى أيضا! هذه هى نتيجة الدلع الزائد.. قم، تعال بسرعة لتدير الطاحونة.»
لم تفلت جوتسي، طبعًا، من أن يُزج بها مثلى فى تلك المهمة.
صرت والبنت أشبه مانكون ببغلين مشدودين إلى عامود ماكينة، بدا منها الحجر العلوى كأنه مثقوب بفتحتين؛ فى كل واحدة عصا لتدوير الرحي، فى حين تدلى من طرف كل عصا حبل طويل فكنت أمسك بطرف واحد منهما بينما تمسك جوتسى بالطرف الآخر، ندور بالطاحونة: فى الأمام المرأة سيتانيانغ وقدامها مباشرة ابنتها جوتسى ثم أمى فى جزء من الدائرة التى كان ينتهى طرفها عندي.
«اسرع الخطى وامشِ ..وإلا تعثرت بي.» قالت لى أمى وهى تسعى بالحجر الدوّار.
«وأنتِ أيضا.. أسرعى بالمشى وإلا هشّمت عظامك.» كانت سيتانيانغ تتوعد ابنتها.
حول الطاحونة كنت أدور وأطأطئ رأسى متأملاً حجر الماكينة وصوته الرتيب.. رونغ رونغ رونغ.. كان القمح أعوادًا تطرح فى فتحة الحجر العلوية.. وشش وشش وشش.. نظرت إلى كل هذا مأخوذًا أتسلّي، كأنها لعبة مشوقة وغريبة، وبينما كنت أتفحص السطح الظاهر من الحجر العلوى لاحظت وجود فتحتين، إحداهما تكدست فيها بعض حبات الأذرة الرفيعة وفى الأخرى انحشرت مكنستان صغيرتان.
«ما الداعى لوجود هاتين المكنستين هنا؟» سألت أمي
«لكى نكنس بقايا الطحين من فوق الأرض.»
«ويصير الطحين مخلوطا بقش المكانس؟»
«طبعاً..الطحين كثيرا مايخالطه القش!»
«ويظل مختلطاً بالأكل وينزل فى بطوننا على هذه الحال؟»
«وماذا تظن؟ طبعًا ينزل فى بطوننا مع الأكل.»
«ياللقرف.. كيف للناس أن يأكلوا قش المكانس أثناء الطعام؟»
«قد اعتادوا ذلك.. كبارهم وصغارهم، وستبقى أنت تسألنى هكذا حتى تصدّع لى رأسي.» فرغ صبر أمى فلم تعد تطيق المزيد من الثرثرة.
«منذ متي، يا أم، عملوا هذه الطاحونة؟» كانت جوتسى تسأل أمها.
«منذ زمان وهى موجودة.»
«فمن أول صانع لها؟»
«المعلم «لوبان» وامرأته.»
«ومن لوبان هذا، ومن امرأته؟» [صنائعى مشهور فى الحكايات الشعبية]
«قلت لك لوبان يعنى لوبان..هو هكذا وخلاص!»
«وكيف صنع لوبان الطاحونة؟»
«المعلم لوبان وامرأته كانت أسنانهما ضعيفة لا تتحمل مضغ الحبوب؛ فعملا حجرين كبيرين وثقبوهما وركباهما وجعلا يدورانهما معاً..دورونغ دورونغ دورونغ.. هكذا.»
كانت كل قضايا الدنيا ومشكلاتها تجد حلاً بسيطا وجاهزا على لسان أمى وجارتها سيتانيانغ، فما من شيء إلا أمكن شرحه وتفسيره وتوضيحه بأبسط أسلوب.
نزل الصمت على الأشياء كلها من حولنا وانفضّ الكلام فشمل الهدوء غرفة الطحين، إلا من خيط نور رفيع كان يتخلل الخصاص المتشابك القائم فى إطار النافذة الغربية، فانعكس هيكلها على الجدار الشرقي، صارت خطوط النور المائلة تعبر الغرفة وهى منصبة على طولها كأنها ساقطة بمقياس لاعوج فيه، وقد تخلل التراب شعاعها وأخذ يتقلّب على صفحته كمثل ومضة ضوء تكسّرت حيرى فوق سن إبرة، فاهتزت منها خيوط بيت العنكبوت المتهرّئة المعلّقة فى ركن قصى من سقف الحجرة المليء بالغبار، فى أعلى الحائط استكنّ بُريص فاردًا أطرافه الأربعة. ساعتئذ انتابنى الفتور بعد لحظات طويلة من الانبهار بفكرة دخولى إلى المطحنة والمشاركة فى العمل بها، تسلل إلى جسمى وروحى إحساس بالتبلّد وفى إذنى هدر الطواحين وخطوات متلاحقة ولهاث أنفاس ثقيلة تدور بأطواق الطريق الذى لاأول له ولاآخر، ظللت أتبع خطوات سيتانيانغ وهى أمامى وكلما حاولت الإسراع عجزت عن ملاحقتها وهى تمشى مجهدة بخصرها الرشيق قدامي، وخيوط النور المائلة تسقط على وجهها ثم تزايله لتتلقاه بعد هنيهة من جديد، فى كل مرة تضيق عيونها تحت غمر الضوء فيجتمع رمشاها الطويلان بينما تزم فمها فتنغمس فى خدها غمازة حلوة ويتضح فى تلك الأثناء جمالها، حتى إذا بعدت عن حزمة النور اكفهرّ وجهها وعلته كآبة، فكنت أحب النظر إلى محياها الرائع دون علامات الأسى المتفرقة فى ثناياه، ولو الإشراق والذبول كانا يتواليان حيناً بعد حين، ويستبد بها وجه السخط أكثر مما يشرق فى بهائها جبين صبوح، ثم لا يدوم أكثر من غمضة عين.
«ماعدت أقدر على جذب ذراع الطاحونة، يا أم.» صاحت جوتسي.
«اشتغلي..عيب عليك أن تشتكى وأخوك لم يتعب من العمل..مافائدة جسمك السمين إذن؟» كانت سيتانيانغ تتكلم وهى تميل بوسطها إلى الأمام ثم إلى أسفل وتدفع ذراع الطاحونة بمشقة.
«أنا أيضا تعبت من الشغل.» كذا قلت، على غرار ماقالت جوتسي، ومثلها فعلت.
«هل ستتعاركان ثانية؟»
«أبدا..تعاركنا وانتهينا.»
«اذهبا.. إذن!»
جرينا أنا والفتاة نتقافز مرحاً، خرجنا من الطاحونة خروج هاربين من أسر زنزانة، كانت السماء فضاء رحبًا والأرض واسعة مديدة، وقد تركنا وراءنا أمى وسيتانيانغ يدوران بلانهاية مع المطحنة التى أخذت تهدر ..لونغ، لونغ، لونغ، وصوتها ملء الأركان يهدر لايريم.
الشيء المستفاد من حادثة توقيع العقاب علينا اتضحت آثاره فى أننا.. أنا والبنت وجوتسي، صرنا نملك المقدرة على العمل وهو ماكان يعنى أيضا، وبكل بساطة، أن زمن الطفولة قد انقضى ذلك أننا أصبحنا على نحو أو آخر أعضاء «رسميين» فى عملية تشغيل آلة طحين، بعيدًا عن فكرة العقاب نفسها، وسواء تعاركت مع جوتسى من عدمه. بدا أمام عينينا أن الذين فى مثل عمر أمى وسيتانيانغ لم يعودوا شبابًا ممتلئين حيوية بل قد بلغوا «المرحلة الوسطي» من العمر بكل مسئولياتها ومتاعبها، وأن مجرد المشى لفترة طويلة حول طاحونة يحطم قواهم ويجعل كعوبهم تنسحل فوق الأرض. كنت ابن عشر سنين، صبيا أنزع عن نفسى زغب الطفولة لما نظرت فرأيت أمى تدور فى مطحنة وقد شحب منها الوجه وابتلت هدومها بالعرق، حزن قلبى عليها، لم أشأ أن أرفض لها طلبًا أو أتجاهل نصيحة، لكن جوتسى كانت أكثر مراوغة فما إن تمضى عشر دقائق بعد استلامها ذراع المطحنة حتى تتعلل بالذهاب إلى دورة المياه، تشتمها سيتانيانغ، قائلة: «الحمير الكسلانة، مثلك، تنشط فى إدرار البول أكثر مما تكدح فى تدوير الطواحين.» تضحك أمى وتقول: «البنت مازالت صغيرة.»
لم يكن جهد المرأتين مقتصرًا على تدوير ذراع الماكينة كل يوم بل كانتا تذهبان للعمل أيضا فى فرق الانتاج، فلما أتيح لهما تعديل مواعيد تدوير الطاحونة اختارا فترتين فى اليوم: الظهيرة، والمساء حيث تنتهى الحصص الدراسية،ويصبح لزاما علينا مساعدتهما فى السير بذراع الطاحونة.
كنا قد أتممنا معاً المرحلة الإعدادية، ولم نتمكن من الالتحاق بالثانوية، خصوصاً أن أقرب مدرسة إلينا كانت تبعد عشرات الكيلومترات عن قريتنا، وبالتالى فقد سعدنا بالعمل فى الكومونة الشعبية علماً بأنى وقتها لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة بينما كانت هى فى الرابعة عشرة مما لم يكن يسمح لكلينا بالانضمام إلى مجموعات العمل بفرق الانتاج، الشيء الوحيد الذى كلفونا به هو جمع الحشائش ورعى البهائم بين حين وآخر، دون التقيد بمواعيد ثابتة فى هذه المهام فإذا شئنا العمل كان بها، وإلا فليس هناك مايمكن أن نقوم به سوى ذلك، والأجر يتوقف على حصيلة ما جمعناه من الحشائش، بحيث يتم الدفع لنا على حسب الوزن الصافى للكمية.
انهمكنا معاً فى السير بذراع الدوران ولو أنى تحملت وحدى عبء العمل، بينما كانت أمى وسيتانيانغ يتطلعان إلينا من بعيد. كنت لما بلغت الخامسة عشرة ازددت طولاً على الأيام، كانت قامتى تزداد طولا.. تزداد خلال شهور وسنين بنسبة لا تكاد تذكر لكنها فى المحصلة النهائية تصير ظاهرة فى القامة التى تبدو وقت طالت مع الوقت، وقتئذٍ، طرّ شاربى مثل زغب خفيف أول الأمر، ثم غزر منبته فيما بعد، هذا بينما كانت البنت جوتسى تكبر هى الأخرى وإن بقيت أقصر مني. أذكر أن الأمطار هطلت ذات يوم من آخر الخريف فنصحت لى أمى بالذهاب إلى سيتانيانغ.. «اذهب وقل لها إن كانت تريد منك أن تدير حجر الطاحونة.» غطيت رأسى بقبعة من البامبو ومشيت فى تراخٍ حتى وصلت إلى العمة، وجدت أبى جالساً عندها على حافة ال «كانغ» وهو يدخن، كانت جالسة إلى جواره تخيّط نعلها على ضوء النافذة القريبة. «أمى تسألك.. ياستى [ياعمتى سيتانيانغ] إن كنتِ محتاجة إلى الطاحونة فى شيء؟» رفعت رأسها إليّ، أجابتنى وعيناها تبرقان، قالت: «طيب..رُح شغّل الماكينة.» ثم واصلتْ قائلة للبنت: «اذهبى ياجوتسى مع أخيك.. اطحنا لى خمسة كيلوغرامات من الذرة!ّ» رنة صوت خفيضة وناعمة جداً ترددت من الغرفة فتقدمتُ أنا ورفعتُ الستارة المسدلة، دلفت إلى الداخل ورأيتها جالسة فوق الكانغ [الكنبة] وهى ترتدى سترة ضيقة جداً فوق بنطلون قصير، استغربتُ وقد بدا أن زمن الصبا قد أصبح تاريخاً فى لمحة عين، سحبت قدمى التى دلفت بها إلى بوابة زمن الصبا وعدت أدراجى مضطرباً أقف وسط باحة البيت أنادى عليها من الخارج: «تعالى ياجوتسي.. أنا بانتظارك عند الطاحونة، الحقى بى هناك، قومى بسرعة لا تتكاسلي.» كانت الأمطار تنهمر فوق قبعتى وقد استولى عليّ الغضب والضجر، مشيت حائرًا لا أعرف لحالتى هذه سبباً واضحًا.
الحلقة الثانية
الجمعة القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.