مع استقبالنا ليلة اليوم (الجمعة) بدأت أولى ليالى العشر الأخيرة من رمضان، التي هي فرصة عظيمة لمن وفقه الله فيها، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، قدوة لنا في التعامل معها، إذ كان يجتهد بالعمل فيها أكثر مما يجتهد في غيرها. عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ". (رواه مسلم). وعنها أيضا، رضي الله عنها، قالت: "كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ". (رواه البخاري ومسلم). قال العلماء إن هذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وذكر وقرآن وصدقة واعتكاف وغيرها، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعتكف فيها، ويلزم المسجد للتفرغ للطاعة. قال تعالى: "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ".(البقرة: 187). وقال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد". وروت عائشة، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ".(رواه البخاري). وروى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، اعتكف في العام الذي قُبض فيه عشرين يوماً. ومن أهم خصائص هذه العشر أن فيها "ليلة القدر" التي أشاد الله بها، فقال: "إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". (الدخان:3 - 6). ومن بركتها أن القرآن أُنْزِل فيها، ووصفها، سبحانه، بأنها يُفرق فيها كل أمر حكيم، أي: يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة ما هو كائن من أمر الله في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله. بل أنزل الله فيها سورة كاملة فقال: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر". (القدر1: 5). "القدر" أي: الشرف، أو التقدير؛ لأن الله تعالى يقدِّر فيها ما يكون في السنة، وما يقضيه من أموره الحكيمة، حتى إنها "خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، في الفضل والشرف، فضلا عن الثواب، والأجر. وتتنزل الملائكة في هذه الليلة إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة.. فهي ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف، لكثرة من يُعتق فيها من النار، وتتمّ بطلوع الفجر. ومن فضائلها ما ثبت كذلك عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".(رواه البخاري ومسلم). "إيماناً واحتساباً" أي: إيماناً بالله، وبما أعده من ثواب للقائمين فيها. وقال علماء: "أخفى سبحانه علمها على العباد رحمة بهم؛ ليكثر اجتهادهم في تلك الليالي، فيزداد قربهم من الله، واختباراً لهم ليتبين من كان جاداً في طلبها. ورد في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: "تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". وفي رواية: "في الوتر من العشر الأواخر من رمضان". (رواه البخاري، ومسلم). أما مفتاح الدعاء فيها فهو ما أرشد إليه النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمَّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، عندما سألته: "يا رسول الله: أرأيت إن علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". (رواه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والرهيب"). والأمر هكذا، على المسلم أن ينتهز هذه الليالي بالعمل الصالح، والابتعاد عن قضائها في النوم، والبطالة. ولعلَّ أضعف الإيمان فيها؛ هو القيام مع الإمام حتَّى ينصرف، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: "صمنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رمضان، فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل، ثم كانت سادسة فلم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلنا: "يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة"، قال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام ليلة". (رواه النسائي، وصححه الألباني). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;