لم تعد الفتاوي الغريبة والعجيبة وقفا علي تحريم ما أحله الله, او المساس بثوابت الدين, وجاءت آخر تلك الفتاوي لتحرم التطعيم ضد شلل الأطفال في ثلاث دول إسلامية هي ( باكستان, أفغانستان, نيجيريا) والوحيدة علي وجه الكرة الأرضية التي ينتشر فيها المرض, تحت دعوي أنه تعطيل لإرادة الله وابتلائه لخلقه. لم يجد مكتب منظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط, امامه إلا مشيخة الأزهر الشريف لاستطلاع الرأي الفقهي في تلك الفتاوي العجيبة, والتقي الوفد برئاسة الدكتور حسين عبد الرازق الجزائري, المدير الفخري لإقليم شرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية والوفد المرافق له بالإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر, وعرض وفد منظمة الصحة العالمية علي شيخ الأزهر أوضاع شلل الأطفال في العالم, وأوضح مضاعفات المرض الخطير التي تؤدي في الغالب إلي الوفاة أو إلي العجز, وأمكن استئصاله من علي سطح الكرة الأرضية, باستثناء ثلاث دول, والمؤسف أنها جميعا دول إسلامية:( باكستان, أفغانستان, نيجيريا), وذلك جراء بعض المعلومات المضللة التي ينشرها بعض القيادات الدينية في أذهان البسطاء, مما يجعل الناس يحجمون عن استعمال اللقاح, بحجة أنه قد يؤدي إلي العقم, أو بحجة أن المواد المستعملة فيه قد لا تكون مقبولة من وجهة النظر الشرعية, وقد ثبت علميا وبشكل يقيني أن هذه الدعاوي لا أصل لها علي الإطلاق, وأن إعطاء هذا اللقاح بشكل واسع سينقذ أطفال هذه الأمة الإسلامية من مصير مؤلم. وحسما شيخ الأزهر هذا الجدل بأن أفتي بحرص الإسلام علي جلب المصلحة ودرء المفسدة, وأن ذلك ينطبق علي مقاومة مرض شلل الأطفال, خصوصا أنه أصبح معلوما بشكل علمي ويقيني أن اللقاح ضد شلل الأطفال يمثل الوسيلة المثلي للوقاية من هذا المرض, فضلا عن أنها وسيلة ذات جدوي اقتصادية عالية, لأنها من جهة قليلة التكاليف, ومن جهة أخري تقي أبناء الأمة من الإصابات التي يمكن أن تنجم عن هذا المرض, من عجز أو وفاة أو غير ذلك, مع ما يصاحبه من تكاليف باهظة, فضلا عن الإعاقة التي قد يصاب بها الطفل; نتيجة عدم تلقيحه, وما تؤدي إليه من آثار مؤلمة من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية لا مبرر لها علي الإطلاق. فتوي جماعية لم يكتف شيخ الأزهر بفتواه ودعا إلي عقد جلسة لمجمع البحوث الإسلامية الأسبوع الماضي لحسم الموقف الفقهي من تلك الفتاوي العجيبة, وناقش كبار العلماء من أعضاء المجمع بعض الآراء الفقهية التي تحرم تطعيم الأطفال ضد مرض شلل الأطفال في دول شرق آسيا وغيرها من الدول التي أصدر فيها رأيه الفقهي تجاه تلك الفتاوي وقال إن هذا المرض يعرض أطفالنا للموت أو الشلل في بعض الأطراف, فيصبح الطفل عاجزا طيلة حياته, ولأننا مأمورون بدفع الضرر عن النفس, وناشد مجمع البحوث الإسلامية جموع المسلمين عدم الانسياق وراء تلك الفتاوي التي تحرم التطعيم ضد هذا المرض الخطير, يقول تعالي: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم, وقد أيد علماء الدين هذا الرأي مؤكدين ضرورة الاهتمام بالتنشئة الصحية للأطفال, وشكر الله عز وجل علي اكتشاف الأمصال التي تقي من هذا المرض, فالمؤمن القوي أحب إلي الله من المؤمن الضعيف. ويقول الدكتور الأحمدي أبو النور عضو مجمع البحوث الإسلامية ووزير الأوقاف الأسبق, إنه إذا كان الإسلام يستهدف في تشريعاته المحافظة التامة علي هذه الأمور الخمسة ومن ضمنها ما يتعلق بالأطفال والعناية بتنشئتهم الصحية التي تمنع الأمراض وتعطيهم الفرصة في النمو بشكل سوي في كل مراحل حياتهم, وإذا كان هناك بعض الأمراض المتوقعة التي تصيب البدن كشلل الأطفال, الذي يصيب الطفل في مراحله الأولي, فمن واجب الأسرة والمجتمع حماية الطفل من أي ضرر يمكن أن يؤثر علي الطفل سواء من الناحية النفسية أو العقلية أو البدنية, يقول الله عز وجل: ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة, من آياته سبحانه وتعالي أيضا ما يعتبر حماية كاملة للأطفال, ولا تقتلوا أولادكم أي لا تدعوهم فريسة لأي خطر صحي قد يفضي بهم إلي العجز أو الموت, وقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار, فلا ضرر يسمح به بالنسبة للإنسان ولا ضرر يسمح به من الشخص لغيره, فلا يضر نفسه ولا غيره. ويضيف أنه إذا كانت الأمصال التي وصل إليها العلم تقي أطفالنا بإذن الله فمن واجب الأسرة استعمالها لحماية أطفالهم, وتشكر الله علي اكتشافها, ويجب وقاية أطفالنا بها, واعدادهم للمستقبل بدنيا وعلميا وعسكريا واقتصاديا, يقول تعالي: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم, فإذا كانت الوقاية للفرد أو المجتمع أمرا واجبا وفرضا حاتما فإن التهاون فيه يعد إثما ويحرم شرعا أن يتورط الفرد فيه, كما يحرم علي شخص أن يثبط عزائم الأسرة والمجتمع علي أن تأخذ طريقها نحو الوقاية من المخاطر التي تهدد صحة أطفالنا, ورائدنا في هذه المقولة هو قوله صلي الله عليه وسلم:( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). أما الدكتور طه أبو كريشة عضو مجمع البحوث الإسلامية فيري أن هناك مبادئ عامة تتعلق بتكوين الإنسان, بحيث يكون إنسانا قادرا علي أداء رسالته في هذه الحياة التي خلق من أجلها, ومن الشواهد القرآنية التي تحثنا علي ذلك ما جاء في قوله تعالي: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم, وكذلك ما جاء في قوله صلي الله عليه وسلم:( المؤمن القوي خير وأحب إلي الله تعالي من المؤمن الضعيف وفي كل خير), فمن خلال هذه التوجيهات القرآنية والنبوية نفهم ما يقوم به أهل الذكر من الأطباء المتخصصين فيما يتعلق بالوسائل التي تؤدي إلي البناء القوي للإنسان إلي جانب التحذير من الأمور الأخري التي تؤدي إلي ضعف الإنسان وإلي تعرضه إلي المخاطر, ومن غير شك فإن التطعيمات التي يشير بها أهل الذكر من الأطباء وثيقة الصلة بالإعداد البشري للإنسان, وبناء علي ذلك فإن علي أفراد الأمة أن يمتثلوا جميعا لهذه النصائح وألا ينساقوا وراء الفتاوي الباطلة والمضللة التي تحرم التطعيم ضد شلل الأطفال, لأن الإعراض عنها يعد إعراضا آثما لأنه يترتب من ورائه المشاركة في تدمير الإنسان إذا ترك معرضا لوسائل العدوي التي تؤدي إلي إحداث هذا المرض. ومن يعرض عن ذلك يكون شريكا في آثار هذه الجريمة التي تهدد كيان الإنسان.