من يلقي نظرة فاحصة على مسيرة الحياة الفقهية في الأمة المحمدية يجد أن مجتهدي هذه الأمة وعلماءها في كل عصر ومصر يولون تصحيح أعمال الناس وتصرفاتهم عناية خاصة على وجه العموم، امتثالا لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد:33]، فعموم هذا النهي يقتضي وجوب حماية الأفعال والوقائع التي يمكن تصحيحها بوجه من الوجوه الشرعيَّة المعتبرة بدل الحكم عليها بالبطلان والفساد. إن اعتبار قصد المكلف وحمايته من الحكم على أفعاله وتصرفاته بالبطلان والإلغاء مع إمكانية تخريجها على الصحة أمر جاء به الشرع الشريف، وقررته الآيات القرآنية والسنة النبوية، وجرى على وجوب اعتباره ومراعاته علماء الأمة، خاصة المتصدرين للإفتاء حتى بات قاعدة أصيلة في هذا الشأن، وفي ذلك يقول الإمام القرافي في (الذخيرة 7/185): القاعدة المشهورة حمل تصرفات العقلاء على الصحة ما أمكن لأنه ظاهر حالهم. ويُعَدُّ مبحث التلفيق من المباحث الدقيقة التي طرقها العلماء لتحقيق هذه المقاصد عبر القرون، خاصة في العصر الحاضر، في وقت أحوج ما نكون فيه إلى المواجهة الحكيمة التي ترعى المصالح أتم رعاية، وترفع المشقة وتجلب الحلول الميسرة وفق الفقه الإسلامي مقاصد وأدلةً وقواعد واجتهادًا، إيمانًا بأن جميعهم على هدًى من ربهم ونهْلٍ من بحر نبيهم صلى الله عليه وسلم فكان اختلافهم رحمة وسعة كما كان اتفاقهم يسرًا ورحمة. وحقيقة التلفيق تؤول إلى أخذ المكلف المقلد بأكثر من مذهب فقهي في الوقت نفسه وفي المسألة نفسها بحيث يحصل من هذا المزج هيئة مركبة لم يقل بمجموعها أحد ممن قلَّدهم، وإنما قال بعضهم ببعض أجزائها وقال غيرهم ببعض آخر. ومثال ذلك: أن يقتصر المصلي تقليدًا لمذهب الشافعية في باب الوضوء على مسح بعض شعرات من الرأس، مع تقليده بهذا الوضوء لمذهب الحنفية في الصلاة دون تحقق الاطمئنان في أفعالها، فقد نتج عن ذلك صورة مركبة لم يقل بصحتها أحد من هذين المذهبين، فالشافعية يقولون ببطلان هذه الصلاة لعدم الطمأنينة، والحنفية يقولون ببطلانها لعدم حصول الطهارة بمسح شعرات أقل من ربع الرأس. كذلك يكون من التلفيق تتبع المذاهب واستقراء الآراء ثم الجمع بينها والعمل بما تركب من مجموعها. والمختار جوازه، لأن طبيعة الفقه ومقاصده تقضي بعدم الجمود على مذهب واحد في الفتوى والتشريع مادام غيره صار ملائما للواقع، خاصة أن غالب مسائله مبناها على الظن. لكن الأخذ بالتلفيق مرهون بعدة شروط إذا فقدت امتنع العمل به،وهي تتلخص في: وجود الحاجة الداعية إلى العمل به، فلا يجوز لمجرد العبث أو الهوى أو التهرب من التكليفات الشرعية أو محبة الظهور وادعاء التجديد الفقهي، وألا يترتب عليه تركيب حكم يخالف الإجماع أو يخالف نصًّا قاطعًا في دلالته، أو يتعارض مع مقاصد الشريعة، وألا يتخذ من التلفيق ذريعة لنقض حكم مستقر عمل فيه بمذهب أحد المجتهدين، قياسا على قولهم الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، فمن باب أولى ألا ينقض بالتلفيق لأنه تقليد، وألا يؤدي العمل بالتلفيق إلى نقض أحكام القضاء، لأن حكم القاضي يرفع الخلاف درءًا للفوضى وحسما لمادة الخلاف، فإذا عمل بالتلفيق على خلافه حصل الاضطراب والتخبط وعدم استقرار الأحكام القضائية. وبذلك يحصل التوافق في الفقه والفتوى والتشريع بين الرؤية الشرعية وحاجة المجتمع، حتى تسير المسيرة الفقهية والعملية الإفتائية في القضايا والمستجدات وما يعرض من أسئلة الناس بطريقة منضبطة لا يشوبها الفوضى أو التخبط. ورغم وضوح ذلك فإن الأمر لم يخلُ من لمز المتشددين وتذمرهم بالأمة منطلقين من هواجس ودعاوى فاسدة مبناها عدم الفهم لمعنى التلفيق وشروطه وضوابطه فضلا عن غيابهم عن إدراك واقع الناس وتغيره. لمزيد من مقالات د شوقى علام ;