طبعا, من واجبنا أن نهنئ الرئيس المنتخب محمد مرسي بالفوز ونرحب به ونتمني له التوفيق, لكن هناك واجبا آخر أحري بالأداء لا ينبغي أن نهمله أو ننساه, وهو ألا نترك الانتخابات الرئاسية تمر دون أن نفكر في المناخ الذي جرت في ظله, وفي الوقائع والملابسات التي صحبتها, والقوي والمؤسسات التي شاركت فيها, والشروط والتحفظات والتمنيات والمخاوف المعلنة والمضمرة التي حكمت هذه الانتخابات, وخالجت الناخبين وأملت عليهم اختياراتهم وانتهت إلي النتيجة التي نعرفها. لقد جرت هذه الانتخابات الرئاسية في مناخ غائم مدلهم لا يمكن من الرؤية ولا يساعد علي التمييز والاختيار, نعم, كانت الحرية مكفولة, لكننا لم نكن نعرف ما الذي نصنعه بهذه الحرية, مثلنا مثل التاجر الثري الذي يحمل خزائن من الذهب والفضة لكنه لا يدري ماذا يصنع بها وهو تائه في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء, ولا خبز ولا مأوي. هكذا وجدنا أنفسنا بعد سقوط مبارك, لا دستور ولا حياة سياسية, ولا زعامات مجربة, ولا معلومات صحيحة, ولا رؤي واضحة, ولا تنظيمات حزبية إلا تنظيم الجماعة التي كانت محظورة كما كان يقال, وإذا بها تقفز فوق من سبقوها إلي ميدان التحرير, وتختطف الثورة, وتعلن ملكيتها لها, ويقابل هذه الجماعة المجلس العسكري الذي ورث الحكم وقبض علي السلطة بيد من حديد, وبينهما وقفنا لا ندري ماذا نصنع, أو أننا كنا ندري لكننا لم نستطع, لأن الثورة التي قامت ضد مبارك لم تقم ضده وحده, بل قامت ضد النظام العسكري البوليسي الذي بدأ في مثل هذا الشهر منذ ستين عاما وجر علي مصر النكبات التي كان آخرها حكم مبارك, فنحن إذن ضد حكم العسكر. لكننا لم نثر ضد حكم العسكر لنسقط في حكم الإخوان والسلفيين الذين كانوا دائما الوجه الآخر الملتحي لديكتاتورية يوليو, وكانوا أكثر المستفيدين منها والقادرين بحكم عدائهم للحرية علي التعايش معها أحيانا في السر, وأحيانا في العلن! باختصار, الثورة التي اشتعلت بصورة عفوية دون تنظيم, ودون برنامج, ودون قيادة وجدت نفسها بعد أن أسقطت رأس النظام داخل النظام الذي أسقطت رأسه أو محاصرة بين جناحيه الرسمي وغير الرسمي, المجلس العسكري, وجماعة الإخوان اللذين انفردا بإدارة البلاد طوال الشهور الماضية واشتركا معا وتفاهما بصورة مباشرة أو غير مباشرة حول ماصدر من قرارات, وعدل من مواد الدستور القديم, وأجري من انتخابات, وشكل من لجان, وقد تبين أن هذه كلها خطوات في الفراغ فلم يتحقق منها شيء, الانتخابات أجريت قبل وضع الدستور كمن يبني الطابق الأعلي قبل الأرضي, ونظمت بقوانين معيبة وأدت إلي سيطرة الإخوان وحلفائهم علي البرلمان وانفرادهم بتشكيل لجنة وضع الدستور الجديد التي قضت المحكمة الإدارية ببطلانها, كما قضت المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب, وما نتج عن هذا من مظاهرات واعتصامات ومشاجرات بين الإخوان المسلمين والمحكمة الدستورية, وبينهم وبين المجلس العسكري, وفي هذا المناخ الذي ازداد توترا وانفعالا جرت الانتخابات الرئاسية وصدر الإعلان المكمل, ووجدنا أنفسنا أمام عدد من المرشحين للرئاسة لا نعرف أكثرهم. ومنهم من سمعنا اسمه لأول مرة, وليس فيهم من يمكن اعتباره ممثلا للثورة أو صاحب تاريخ أو سابقة في النضال من أجل أهدافها وأهداف المصريين الذين ناضلوا في سبيل الحرية والدستور, ورفعوا شعارهم الخالد: الدين لله, والوطن للجميع, وطالبوا بدولة مدنية, لا دينية ولا عسكرية, وبنظام ديمقراطي يحقق العدالة, ويعيد الروح للجماهير الشعبية, ويحرس الحريات العامة والخاصة, ويحمي أرض الوطن, فإذا كنا قد وجدنا في الجولة الأولي للانتخابات الرئاسية من يمكن اعتباره مؤيدا لهذه الأهداف أو متعاطفا معها كعمرو موسي أو حمدين صباحي, فقد أسلمتنا الجولة الأولي إلي مرشحين اثنين في الجولة الثانية يمثل أحدهما النظام الفاسد بصراحة شديدة, وينتمي الآخر للأحزاب الدينية التي لا تكتفي باستلهام القيم الإسلامية, كما تفعل الأحزاب المسيحية في الغرب, بل تريد أن تطبق الشريعة, وتقطع الأيدي والأرجل, وتسترجع الخلافة, ومع أن المصريين لم يجدوا من يمثلهم كجماعة وطنية أو يمثل ثورتهم في الانتخابات الرئاسية فقد استطاعوا رغم كل شيء أن يرفعوا رايتهم ويعلنوا رفضهم وتحفظهم إزاء ممثل النظام العسكري وإزاء ممثل الإخوان المسلمين معا, صحيح أن ممثل الإخوان فاز في النهاية بالمنصب, لكن فوزه بالمنصب ليس دليلا علي فوزه بثقة المصريين وما علينا إلا أن ننظر فيما حصل عليه المرشحون من أصوات الناخبين في الجولتين. في الجولة الأولي لم يحصل ممثلو جماعات الإسلام السياسي كلهم إلا علي نحو أربعين في المائة حصل منها الدكتور محمد مرسي علي ثلاثة وعشرين في المائة, وحصل علي مثلها السيد أحمد شفيق ممثل نظام مبارك الذي لم ير الناخبون فرقا كبيرا بينه وبين ممثل الإخوان, ثم انتهت الجولة الأولي وجاءت الجولة الثانية ليؤكد الناخبون المصريون موقفهم السابق من كلا المرشحين, فيعطون مرشح الإخوان الفائز بالمنصب ثلاثة عشر مليون صوت, ويعطون منافسه اثني عشر صوتا, ومن المؤكد أنهم ميزوا بين الاثنين. فأحد وزراء مبارك لا يصح أن يحصل علي ما يحصل عليه واحد من سجنائه, صحيح أن هذا السجين الدكتور محمد مرسي ينتمي لجماعة كانت تعمل للاستيلاء علي السلطة وليس دفاعا عن مدنية الدولة أو عن ديمقراطيتها, وكان نائبا من نواب هذه الجماعة الذين منحهم نظام مبارك تسعين مقعدا في مجلس الشعب قبل بضع سنوات, لكنه أي الدكتور مرسي لم يتول منصبا في الحكومة, ولم يلوث يده بما تلوثت به أيدي من عملوا في نظام مبارك, لهذا حصل علي ثمانمائة ألف صوت زيادة عما حصل عليه المرشح المنافس, وقد مكنته هذه الأصوات الزائدة من الفوز بمنصب رئيس الجمهورية, لكنها أنبأتنا أن الفرق بينه وبين منافسه فرق بين شخص وشخص, وليس فرقا بين نظام ونظام, لأن الديكتاتورية الدينية التي تسعي لإقامتها جماعات الإسلام السياسي لا تقل عنفا أو فسادا عن دكتاتورية مبارك ومن سبقوه, ولست أشك في أن ملايين ممن صوتوا لأحمد شفيق كانوا يصوتون رفضا للإخوان وليس تأييدا لمبارك, كما أن ملايين ممن صوتوا لمحمد مرسي فعلوا كراهية في نظام مبارك وليس حبا في الإخوان الذين يدركون بلا شك هذه الحقيقة, وعليهم أن يعملوا في ضوئها. ولقد يري بعضنا أن في خطب الرئيس الإخواني ما يدل علي تفهمه لمطالب المصريين وإيمانه معهم بالدولة المدنية والنظام الديمقراطي, لكننا لا نستطيع أن نوفق بين قبوله لهذه المطالب وانتمائه لجماعات بدأت نشاطها بالفعل في تحويل مصر إلي إمارة طالبانية. أمس, جاء إلي بيت الشعر من أراد أن يوقف البرنامج لأن المؤذن يؤذن للصلاة, وقبل الأمس قتل ثلاثة ملتحين شابا كان يسير مع خطيبته في أحد شوارع السويس, وقبلها أحرق السلفيون تمثال محمد كريم, ورفضوا الوقوف تحية للسلام الوطني,وقرر بعض ضباط الشرطة إطلاق لحاهم والبقية تأتي؟! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي