ماذا تخشى أوروبا؟ بالتأكيد يراود الساسة والنخب المثقفة في أوروبا أمرين أساسيين: الشعبوية الصاعدة، والتطرف الإسلامي، لأن كليهما، وإن بدا متناقضان، إلا أنهما في النهاية يقفان ضد القيم الأوروبية الأساسية. منذ يومين تنفس القادة في أوروبا الصعداء عقب هزيمة المرشح اليمني المتشدد «جيرت فيلدرز» في الانتخابات العامة في هولندا، وهو الذي كان يتعهد بحزمة من التعهدات منها خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، حظر القرآن، وإغلاق المساجد، وحظر الهجرة من الدول ذات الأغلبية المسلمة. تشير نتائج الانتخابات إلى أن قطاعات واسعة من الجماهير بدأت تستوعب على نحو نقدي ما حدث في بريطانيا من خروج من الاتحاد الأوروبي، ثم فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، وبدأوا يدركون أن آخر ما تحتاج إليه أوروبا هو تيار شعبوي يذكي الصراع على حساب القيم الأساسية التي نهضت عليها: الاستنارة، والحرية الدينية، والتسامح والديمقراطية. لم يكن غريبا أن تصف انجيلا ميركل- المستشارة الألمانية- ما حدث بأنه »يوم جميل للديمقراطية«، فهي ذاتها تحاصرها نداءات الشعبوية، وتخشى صعود اليمين المتطرف في بلادها على اكتاف قضية المهاجرين. رئيس وزراء أسبانيا «ماريانو راجوي» عبر عن سعادته بنتيجة الانتخابات بأوصاف أكثر وضوحا، قائلا في رسالته إلى رئيس وزراء هولندا الذي يفوز للمرة الثالثة »أن الشعب الهولندي أظهر في لحظة محورية في أوروبا المسئولية والنضج«. من الطبيعي أن تقلق أوروبا من الشعوبية الصاعدة التي استطاعت أن تحسم معركتين في الغرب في غضون شهور، أحدهما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والثانية فوز دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وهو ما يشكل سندا للقوى الشعبوية الصاعدة في أوروبا. ونتيجة الانتخابات في هولندا، حتى وإن شهدت تقدما نسبيا لليمين المتطرف مقارنة بنتائج الانتخابات السابقة، إلا أنها كشفت أن الشعبوية الجامحة ليست اختيارا أولا في المجتمع، فضلا عن أن دولا مثل فرنسا والمانيا، على أبواب انتخابات عامة، يمكن أن تهدأ قليلا، وترى في نتائج الانتخابات في هولندا إمكانية لهزيمة اليمين المتطرف. أوروبا تدافع عن نفسها، هذا هو التعبير الملائم لوصف ما يحدث في نهر السياسة بعواصمها المتعددة، تدافع عن مشروعها في مواجهة مشروع آخر يقوده الشعبويون الجدد. يوما، عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصف أحد قادة هذا التحول التاريخي «نايجل فاراج» ما يحدث بأن «مشروع أوروبا انتهي، والسؤال هو متى يحدث ذلك بشكل نهائي»، هذا الرجل، الصديق الصدوق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يماثل في أفكاره العديد من القادة السياسيين على المسرح الأوروبي الآن، الذين ينتظرون تحقيق نبوءته بانتهاء مشروع أوروبا، ويصنعون بأنفسهم نهايته. الشعبوية خطر على أوروبا. هذه القارة، ذات القلب العجوز، والأطراف الشابة، أو التي تجمع بين أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة حسب وصف نظام جورج دبليو بوش في مطلع الألفية الجديدة، قامت على قيم تخشي عليها من التهديد هي: التعددية الثقافية، والاستنارة الذهنية، والحرية الدينية، والتسامح. يهدد الشعبويون هذه القيم، من خلال نشر خطابات تتوعد المهاجرين، وترفض التنوع الديني، وتشيع التعصب. وقد وصف أحد القانونيين البارزين المقربين للمستشارة الألمانية الشعبوية بأنها إحياء للنرجسية والقومية المتطرفة، هذا هو المرض الذي يفت في عضد أوروبا، ويطول التنوع، الفكرة الأساسية التي نهضت عليها. يرفض خطاب الشعبويين المؤسسة السياسية، والطبقة السياسية باعتبارها «فاسدة»، ويعيد انتاج الخطاب القديم الذي يقوم على سماع صوت الجماهير، والنقاء الثقافي، التكتل تحت لافتة «نحن» في مواجهة معسكر «هم»، وعادة ما يكون «هم» إشارة إلى المختلفين دينيا، أو ثقافيا، الخ. أوروبا التي ترفض الشعبوية ترفضأيضا التطرف الذي يرفع راية الإسلام، ويرونه خطرا على القيم الأساسية للمجتمع الأوروبي خاصة حرية الرأي والتعبير، مثلما حدث في واقعة مجلة «شارلي إبدو»، وقد ذكر مؤرخ فذ، كلاسيكيا في ليبراليته، هو «تيموثي جارتون آش» في مقال له أن حرية الرأي هي الركن الأساسي الذي قامت عليه الحضارة الأوروبية، وبالتالي ينبغي أن يحرص عليها الأوروبيون، حتى وإن تسببت في إثارة غضب أو حنق البعض أو أساءت إلى معتقداتهم، فإنها حقيقية ينبغي أن تحرص عليها أوروبا حتى تظل وفية للقيم التي استخلصتها عبر قرون من الصراع السياسي والديني. من هنا فإن الذين يرفضون الشعبوية حرصا على المشروع الأوروبي، يرفضون في الوقت ذاته التطرف الديني حرصا على المشروع الأوروبي. المفارقة أن كلا من الشعبويين والمتطرفين دينيا لديهم نفس المشروع رغم هوة الاختلاف بينهم، كلا الفريقين يريدان أوروبا غير تلك التي عليها الآن، ويتغذيان على بعضهما بعض. إذا علا صوت الشعبوية اكتسب التطرف الإسلامي بعضا من الشرعية، وكلما ظهر التطرف الإسلامي سافرا في أوروبا كان ذلك سندا مضاعفا للشعبويين في نضالهم في مواجهة المهاجرين، والإسلام والمسلمين. وهكذا يتلاقى أصحاب المشروعات التي تبدو متناقضة، وتبقي أوروبا، القارة ذات القيم الأساسية في الحرية والديمقراطية والاستنارة، تدافع عن نفسها. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;