طيلة عملى بالصحافة الثقافية، عبر أكثر من 20 سنة، لم أتهيب حوارا، وأتأهب له باهتمام مُضاعف إلا عند ملاقاة الشعراء، لكن حديثى بالمصادفة مع الشاعر اللبنانى »بول شاؤول« كان سهلا بلا ترتيب، ومحلقا بلا قيود. أعرف جانبا كبيرا من عالمه الشعرى ،وترجماته، واهتمامه بالمسرح، وكتاباته النقدية، وهو تكفيه فراسته، ووعيه، لفرز من يتعامل معهم، فكان اللقاء شجيا، يكسوه الودّ، وبدأ بدردشة حرة حول الإبداع والسياسة والحياة، لم أسأله بعمدية مهنية، وهو لم يحبس كلامه بقيود الأسئلة، فحررنا حوارنا من أطر التكرار المحبطة. كلمنى بعذوبة فى أماكن وأوقات متفرقة، ونحن نتمشى فى شارع »الحبيب بورقيبة« فى تونس، وفى »بهو الفندق«،و»على المقهي«، فضاعفت إجاباته دفء شمس الشتاء المبهرة، ووجدت بين يدى حوارا يخلو من الصناعة، ومفعما بكثير من الصدق والمحبة. ◙ هل تكفى الشاعر ثقافته الشعرية ليكون شعره عميقا، أم تلزمه معرفة واسعة بالفكر والفنون الأخري؟ الثقافة الشعرية لا تكفى وحدها،لأنها تكون نسبية وهزيلة إذاكان الاهتمام بالشعر فقط، لذلك فينبغى أن ينفتح الشاعر على كل ما هو غير شعرى أيضا، المسرح، والسينما، وهما أقرب ما يكون إلى الشعر،السينما شعر القرن العشرين، وهناك الفلسفة، والرواية، والفن التشكيلي، كل هذه الفنون يستفيد بها الشاعر فى بناء قصيدته، وإذا قرأت كتبى الشعرية ستجد تأثير المسرح والسينما والصورة والفلسفة والرواية أيضا،وكل هذه الفنون تبقى ناقصة إذا لم يكن الشاعر على اتصال بالسياسة ومنخرطا بشكل عميق فى مجتمعه، من الصعب كتابة قصيدة بمعزل عن المجتمع والحياة. ◙ تكتب المقالة الصحفية بجريدة »المستقبل«.. وهى مغايرة للكتابة الإبداعية،فهل تتطلب بدورها الخلفيات الثقافية مثل الشعر؟ الشعر أنقذنى من أن أكون طائفيا.. أو عميلا..أو مرتزقا، لذا أكتب السياسة بقلب شاعر..لا أريد سلطة ولا مالا ولا أريد أى شيء..وإذا كان البعض اعتاد أن يقبض ثمن مواقفه، فأنا ممن يدفعون ثمن مواقفهم، لذا لا أنتمى إلى أى حزب فى لبنان، وأتقاطع مع الأفكار المهمة، مثل حرية بلدى وسيادته،وحرية التعبير والإبداع بعيدا عن أى إطار طائفي. ◙ هل هذه الروح التى جعلتك تؤيد القضية الفلسطينية؟ الحرب فى لبنان كانت مؤامرة من إسرائيل وبعض الطغاة العرب، ولب الحرب فى لبنان كان هو القضاء على القضية الفلسطينية، فلسطين عربية، وأنا عروبي، والقضية عربية وعالمية وليست دينية، وعندما جعلوها دينية ضربوها فى عمقها، حولوها إلى ما تريده إسرائيل الصهيونية، وأنا أيضا أيدت ثورات تونس وسوريا واليمن كأننى كنت فيحلم، وكنت أيضا مع الثورة فى »وول ستريت« ضد الرأسمالية، وهنا أعود إلى جبران خليل جبران حين قال: »لكم لبنانكم ولى لبناني«.. لبنان الحر..المستقر..العربي..لأكون موجودا.. ضعف أى بلد عربى خسارة ووجع لكل البلاد العربية. ◙ لأى مدى ترى الإبداع والكتابة مسئولية؟ الإبداع والكتابة مسئولية وطنية، لو لم أكن شاعرا لحملت السلاح مع الميليشيات المارونية.. كل رفاقى حملوا السلاح.. تساءلت كيف نجوت من هذه الحروب؟..الشعر كقيمة إنسانية أنقذنى من تلك الحروب. ◙ هل يمثل الشعر مددا للكتابة النقدية؟ طبعا من حيث ارتباطه بثقافة الشاعر المسرحية،إذا لم تكن عنده ثقافة مسرحية فيجب ألا يكتب نقدا، أنا كتبت عن نحو 800 مسرحية، ورأيت نحو1200عرض، عندما أكتب عن مسرحية لا بد أن تكون عندى خلفية ثقافية عن جميع تفاصيل النص الفكرية والثقافية بجانب معرفتى بعناصرالعرض.. إذا اجتمع حس الشاعر وثقافته المسرحية تكون كتابته النقدية مميزة..القيم الجمالية للقصيدة تضيف للكتابة النقدية..لا يكفى أن أكون شاعرا لأفهم المسرح. ◙ وهذا ينسحب أيضا على الكتابة للسينما التى تهتم بها كثيرا؟ أزعم أننى أعرف كل السينما المصرية من فيلم »العزيمة« إلى الآن، وأستطيع أن أكتب عنها من الخمسينيات والستينيات وإلى الآن، لكن ثقافتى تجعل كتابتى واعية بأهمية ما أكتب عنه وليست إهانة للشعر ولا للسينما، فأنا لا يمكننى الكتابة عن الفيزياء النووية مثلا لأنى لا أعرف عنها شيئا.. وهنا شعراء كبار لايعرفون عن السينما شيئا. ◙ ترجمت آلاف القصائد فهل لهذا النوع الحساس من الترجمة شروط محددة بظنك؟ أول شيء إجادة اللغتين،العربية والمترجمة، وألا يترجم الشعر إلا الشعراء، لأن القصيدة فيها حيلة سرية إذا لم تلتقطها لن تدخل إلى روحها، ولا يفعل هذا إلا شاعر.. فإتقان اللغتين ليس كافيا لمن لا يعرف الشعر، كما لو طلبت من غير متخصص ترجمة نص كيميائي..هذه أسس لا تحتمل التلاعب. ◙ هل تمكنت من روح القصائد التى ترجمتها كلها؟ فى كتابى عن »نيرودا».. أخذت مختارات من كل مراحله، ومن قرأوه قالوا إنهم قرأوا نيرودا..كان يجب أن أترجم جذوره، مثل الوردة، الجذور، بمعنى الإيقاع..البُنية..الموسيقي.. تركيبة الجملة، ينبغى أن تخضع لبلاغة الشاعر نفسه، وليست بلاغة العربية..بلاغة العصر الذى كتب فيه نيرودا شعره. ◙ وماذا عن آلام ومتعة الكتابة لديك؟! الكتابة فن الصعب.. وكل من كتبوا بسهولة اندثروا.. أن تكتب مخلوقا جديدا معافي..القصيدة أكتبها لأسجل اختلافا عما حولي..كل قصيدة مشروع مختلف عن الآخر، عندي15ديوانا لا يشبه أحدها الآخر.. أفضل سرقة الشعر على تقليد نفسي.. متعة أن تكون حافيا وتبحث عن جديد.. أنا اليوم فى سن كبيرة مختلف فلماذا أكتب ما كتبته فى الثلاثين، لكن هذا يتطلب ثقافة متنوعة..لتعطى الكتابة زخما ونصا مختلفا دائما.. لذا لم أكتب من سبع سنوات.. واستغرب من يقولون أكتب الشعر كما أتنفس.. كيف يا أخي.. أحيانا أكتب قصيدة فى سنتين، ثم اكتشف أنها تافهة.. فأرميها.. ديوانى »أوراق الغائب«كتبته فى ست سنوات.. هنيئا لمن يكتبون فى المساء وينشرون فى الصباح.. أنا مثل النحات أكتب القصيدة مثله.. أحيانا حرف فى جملة يبلبلها حتى اكتشفه فأنزعه أو أجد بديلا له. ◙ فى ديوانك »دفتر سيجارة« أنسنت الأشياء بطريقة لافتة؟ هذه حياتي.. أتمنى أن تزور بيتى فى بيروت.. مثل بيت أى فران.. ألوف الكتب.. ولوحات تشكيلية.. ما عندى تذاويق.. الضروريات فقط.. كل بيت يشبه من بناه.. هذا بيت شاعر. ◙ يعكس علاقتك بالأشياء؟ السيجارة جزء من أصابعى وفمى ورائحة البيت والملابس والمكتب، وأنا بدأت التدخين فى الرابعة عشرة.. لم تفارقنى السيجارة من وقتها لحظة..عشت كل حياتى وهى فى فمي..لدرجة أنها لو كانت رجلا لكانت خير من يكتب سيرتي.. الكرسى عندى كحضن الأم.. بهذا المعنى كتبت الديوان.. لم يسبق أن كتب أحد عن السيجارة ، أبو نواس كتب »خمريات« وأنا كتبت»سيجاريات«.. ههههه.. وكل ما كتبته اعتبره ردا على من صنعوا وسائل الدمار فى العالم، الذين يوهموننا بأن السيجارة سبب كل مصائبنا.. أنا لا أدعو للتدخين.. لست داعية سيجارة.. لا أحد يستطيع التدخل فى الاختيارات الشخصية..متعة السيجارة ومخاطرها..كأنك تشرب الموت..دخان مثل العدم كأنك تستمتع بما هو غير موجود..هيالعبث.. اللا معقول.. كل هذه المعانى للسيجارة.. عمرها قصير.. لاشيء.. أنت تقتل اللا شيء..أنا لا شيء.. حين أموت أُرمى فى المقبرة كما ترمى السيجارة.