فتيان فى عمر الزهور، يمتلئ وجههما بآمال تكسوها طاقة متوهجة، كانا يتبادلان أطراف الحديث حول امتحانات منتصف العام فى جامعتهما، ورغم أن نبرات صوتهما تشير إلى ما يعتريهما من الإحباط والقلق، إلا أن حدة أحدهما لفتت انتباهى، حينما أعلن غضبه الشديد، بعد سماعه حوار أحد أساتذته مع آخر وهو يقول له إن الامتحان المقبل سيكون الأصعب فى تاريخ الكلية، كما أنه يتحدى إن استطاع زميل متخصص الحل فى ضعف الوقت! بما يعنى استحالة أن يقوم أى طالب مهما بلغت درجة نباهته بالحصول على درجة مقبولة فيه! وهنا دفعنى فضول قوى لم أستطع منعه لسؤال الفتى الغاضب، كيف يعقل أن يدور مثل هذا الحوار أمامك؟ فانتبه لى بتعجب وفى عينيه سؤال أكاد أقرأه، «من أنت؟» فابتسمت، وهممت أن أعتذر لتدخلى، ليفاجئنى بإجابة سريعة: «يا سيدى جيلكم أوفر حظا منا.» «فقدت الجامعة بريقها ولم تعد كعهدها السابق، المسافة بين الطلبة والأساتذة باتت طويلة، وفى بعض الأوقات تكون معدومة، وبخلاف أن الدكتور واضع الامتحان، لا يحق لى مناقشته، أو حتى مراجعته، كما لا يوجد فى اللوائح الجامعية ما يجيز مراجعة الدكتور فى الامتحان الذى يضعه أو فى طريقة تصحيحه رغم أننا فى كلية عملية!» توقف مترو الأنفاق واستأذن الفتيان فى الرحيل، ووجدتنى أتأمل حالهما، كيف لنا أن نطالب أبناءنا، ثمرة كفاح العمر، بالتفوق والاجتهاد، وفى الأغلب النبوغ، بعد أن نصارع الحياة لتوفير مسكن جيد وآمن، وملبس لائق، وطعام صحى، وفى خضم هذا الصراع نبحث عن مدرسة مناسبة، وأغلبنا على يقين أن المدرسة أصبحت واجهة اجتماعية فقط، بعد أن تحولت العملية التعليمية إلى حبر على ورق، مناهج عقيمة عفى عليها الزمن، لاتسمن ولا تغنى من جوع، مدرس راتبه لا يعيله لأيام، فيبحث عن الدروس الخصوصية، ومن خلالها يجتهد ليحشو عقل الطالب بالمنهج الرتيب، ومواقع الإنترنت مليئة بفيديوهات لمدرسين يرقصون ويغنون فى أثناء الدرس بل ويلحنون المادة التعليمية ليسهل على الطالب حفظها، ثم يأتى فى الثانوية العامة، التى استنزفت طاقة وزارة التربية والتعليم بالكامل من أجل تأمين امتحاناتها!، ليضع فى ورقة الإجابة كل ما يتذكره، وليذهب الإبداع إلى الهاوية، بعد أن قتلناه بإصرار لا مثيل له، لنشاهد جيلا منزوع النكهة والأمل، جيل ينظر للمدرسة على أنها مكان للترفيه، إلا من رحم ربى، وتملكه الحلم فى تحقيق ذاته بالوصول إلى كليات القمة فى إحدى جامعاتنا، التى أصابها الوهن والعجز والفشل لدرجة جعلتها تخرج من تصنيف أفضل 500 جامعة فى العالم، ولمَ لا، والوضع يسير من سيئ لأسوأ، هل نستطيع أن نرفع رءوسنا من الرمال قليلا؟ ونواجه أنفسنا بحقائق مفجعة. إليكم التالى. إذا أردت الحصول على الماجستير أو الدكتوراه، فلابد من تقديم بعض الرسائل العلمية، وهذا سياق طبيعى، ويستلزم بذل جهد مضن لتحضيرها ومراجعتها بالحرفية المطلوبة لنيلها بالدرجة المستحقة.لكن السياق المؤلم هو وجود عدد من المكاتب التى توفر تحضير هذه الرسائل حسب الطلب بمقابل مادى، وهنا ينال أحدهم درجة علمية لا يستحقها، لم يبذل فيها أدنى درجات الجهد، ومن ثم يتبوأ مقعدا اشتراه بماله وليس بعلمه! حتى الترقى الجامعى يحتاج لتقديم بعض الأبحاث، وأيضا يمكن شراؤها، وبالتالى يكون من المنطقى تفسير وجود بعض الأساتذة غير المؤهلين علميا للتدريس،ناهيك عن الحاجة إلى التأهيل النفسى والتربوى لبعضهم الذى قد يكون نابغا ومتفوقا علميا فى مجاله إلا أنه يفتقر إلى القدرة على توصيل المعلومة لطلابه، ثم نتساءل لماذا تدهور التعليم؟! الغريب أننا أصبنا بالتصلب الفكرى، وبات من يطرح الحلول حالما، وأحيانا واهما، وكأن النظام التعليمى الحالى دستور سماوى لا يجوز تغييره أو حتى تعديله. لذا أجد ما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مؤتمر الشباب بأسوان، من أنه لن تقام جامعة خاصة جديدة إلا إذا كانت تملك توأمة مع جامعة أجنبية «معتبرة» حتى تحقق نهضة تنموية شاملة فى البيئة المحيطة، وأملا فى إصلاح حال تعليمنا الجامعى، إنها بادرة أمل رائعة، ولكن هل من سبيل لتحويل هذا الأمل لواقع ملموس فى السنوات القليلة المقبلة؟ نعم، فما الضير فى إعطاء مهلة لكل الجامعات الحالية حكومية وغيرها، من أجل تحسين أوضاعها العلمية، ولتكن البداية من خلال توقيع بروتوكول توأمة مع جامعات عريقة، تتقدم جدول التصنيف العالمى، بحيث تكون شهادات جامعاتنا المصرية، معتمدة تماما لدى الجامعات المتقدمة، وبما يتيح للمتفوقين من المصريين استكمال تعليمهم بمقارها بالخارج، كمكافأة على تفوقهم، وشيئاً فشيئاً، تستعيد جامعاتنا بريقها المأفول، وتتجدد عافيتها، وتتبوأ مكانة لائقة بحضارتنا، تجعلها قبلة الأشقاء كما كانت، هذا وفى ذات الوقت، نبحث عن التوازى فى تطوير التعليم قبل الجامعى، وهناك تجارب مبهرة لدول كانت نامية فى الماضى، واليوم تقود العالم، والأمثلة كثيرة يأتى على رأسها سنغافورة. علمنا التاريخ الحديث أن صناعة التقدم لاتحتاج إلى إمكانات، ولكنها تقوم على امتلاك الإرادة، وشعبنا يمتلك من العزيمة والجلد والإصرار، ما لا يمكن تخيله، وهذا ما أثبتته الأيام الماضية. فمتى نبدأ؟ [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم