من أهم المؤشرات الدالة على حدوث تحول Shifting كبير فى السياسة الخارجية الأمريكية وبالذات المقومات الأساسية لهذه السياسة، هو ذلك الحديث الذى ورد على لسان جون بايدن نائب الرئيس الأمريكى السابق فى كلمته الوداعية أمام «منتدى دافوس» الاقتصادى إذا قارناها بما ورد على لسان الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب فى حفل تنصيبه يوم الجمعة (20/1/2017) بخصوص هذه المقومات. ففى آخر كلمة له قبل ترك منصبه دافع جون بايدن بقوة «عن النظام الليبرالى العالمي»، ووصف روسيا بأنها تهديد لهذا النظام، وقال إنه «يجب أن تعمل واشنطن مع أوروبا على مواجهة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين». أقل ما يمكن أن يوصف به كلام جون بايدن أنه «كان حديث الأمس»، أما حديث اليوم، أو حديث الأمر الواقع كما يعبر عنه الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب فهو على النقيض تماماً ذلك لأن واشنطن هى التى تتجه الآن لهدم هذا «النظام الليبرالى العالمي»، وتتخلى طواعية عن قيادته. فقد جاء خطاب التنصيب الذى ألقاه ترامب أمام الكونجرس مثقلاً بالكثير من الدعوات العدائية لهذا النظام الليبرالى الذى تزعمته الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد تمحور خطابه حول أربع كلمات مفتاحية هي: «وظائف، ازدهار، وطنية، حدود»، ليصل بخطابه إلى مضمون مشروعه السياسى من خلال عبارتين تشكلان معاً العمود الفقرى لهذا المشروع؛ الأول: «أمريكا أولاً» كبديل للشراكة العالمية، و«سنعيد أمريكا عظيمة مجدداً»، على حساب تحالفات واشنطن الدولية، وتعنيان معاً وعداً من ترامب ب«قيادة ولايات متحدة أكثر انفصالاً عن العالم، وأكثر اهتماماً بمصالحها الخاصة». الدليل على صدق هذا التوجه هو استهانة ترامب بعلاقات التحالف والمصالح المشتركة التى ربطت الولاياتالمتحدة بالحلفاء الأوروبيين وبحلفاء آسيويين من منظور إدراكه لوجود «صدام مصالح» بين الولاياتالمتحدة وهذه الدول تسببت فيه تلك العلاقات التحالفية، فإذا كان ترامب قد أدلى بتصريحات استفزازية تناولت حلف شمال الأطلسى (الناتو) والاتحاد الأوروبى الذى توقع تفككه، فإنه لم يتردد فى إصدار أول مرسوم له ينهى اتفاق التجارة الحرة مع الشركاء الآسيويين وتهديده بإنهاء العمل باتفاق التجارة الحرة لدول شمال أمريكا (النافتا) مع كل من كندا والمكسيك. هذا القرار جاء لينسجم مع دعوة الرئيس الأمريكى إلى تخلى الولاياتالمتحدة عن جميع اتفاقات التجارة الحرة الدولية «التى تضر مصالح العمال الأمريكيين»، ومع توجهه إلى فرض الضرائب والرسوم الجمركية على البضائع المستوردة لحماية السوق الأمريكية من «المنافسة غير المشروعة» لذلك بادر ترامب بوصف هذا القرار بأنه «شيء عظيم للعامل الأمريكي»، وبعد ساعات وجه ترامب تحذيراً للرؤساء التنفيذيين ل 12 شركة أمريكية كبرى من بينها «فورد» و«لوكهيد مارتن» و«ديل» التقاهم فى البيت الأبيض بفرض «ضريبة حدود ضخمة» على السلع المستوردة من مؤسسات تنقل وظائف إلى خارج الولاياتالمتحدة. هكذا تتراجع الولاياتالمتحدة طواعية عن مواقفها السابقة التى تزعمتها والداعية إلى تحرير التجارة العالمية طيلة عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى فى أثناء مفاوضات جولة أوروجواى لتحرير التجارة العالمية، والدعوة إلى تجنب الدول فرض سياسات حمائية داخلية لحماية منتجاتها تتعارض مع مبدأ حرية التجارة. الآن تقود الولاياتالمتحدة دعوة انقلابية ضد هذا المبدأ وضد الليبرالية بشكل عام وأسس قواعد النظام الرأسمالى العالمى وسياسة العولمة وما استتبعها من تطورات تنظيمية فى إدارة التجارة والصناعة العالمية. هذه الإجراءات لم تقتصر فقط على الدول الأعضاء فى «اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي» بل امتد إلى الشركاء الأوروبيين وشركاء آخرين كبار فى مقدمتهم الصين، ففى تصريحات مستفزة للصين قال الناطق باسم الرئاسة الأمريكية شون سبايسر إن «ترامب يدرك أهمية السوق الصينية، ورغبتنا فى دخول أوسع إلى هذه السوق»، وتابع «الترتيبات الحالية المتعلقة بدخول الشركات الأمريكية إلى الصين فى كثير من الجوانب لا تسير فى الاتجاهين»، موضحاً أن هناك عدداً كبيراً من الشركات والأفراد الصينيين الذين يمكنهم دخول السوق الأمريكية بسهولة لبيع سلعهم وخدماتهم بينما تواجه الشركات الأمريكية صعوبات، لكن الأخطر هو أن تنازع المصالح التجارية أخذ يقود إدارة ترامب إلى صدامات أعنف قد تكون عسكرية مع الصين، حيث دمج شون سبايسر المتحدث باسم الرئاسة الأمريكية فى تصريحاته عن الصين بين ما هو تجارى وما هو عسكري، عندما حذر الصين من أن الولاياتالمتحدة «ستدافع عن المصالح الأمريكية والدولية فى بحر الصين الجنوبي، حيث تسيطر الصين على جزر متنازع عليها»، وأضاف «فى الواقع إذا كانت هذه الجزر تقع فى المياه الدولية، وليست فعلياً جزءاً من الصين، سنعمل على الدفاع عن (المصالح) حتى لا تقوض من قِبَل دولة واحدة». فى الاتجاه المعاكس جاء رد الرئيس الصينى «شى جين بينج» أمام مؤتمر «دافوس» الذى حضره للمرة الأولى عندما تعمد أن يرد بشكل غير مباشر على تراجعات ترامب عن الالتزامات الأمريكية الخاصة بعلاقات التعاون الدولية عندما دعا إلى «بذل جهود مشتركة لرسم مسار للعولمة الاقتصادية وصياغة أنماط جديدة للنمو والتعاون والحوكمة والتنمية على المستوى العالمي» وقال إن «اتهام العولمة الاقتصادية بالتسبب فى مشكلات العالم يتعارض مع الواقع ولا يفيد فى حل المشكلات» مؤكداً «الحاجة إلى العمل بطرقة استباقية، وإدارة العولمة الاقتصادية بشكل ملائم من أجل إطلاق العنان لأفكارها الإيجابية وإعادة التوازن لها». حديث أثار إعجاب كل الحاضرين خاصة وزيرة الدفاع الألمانية ارسولا فون دير لاين التى وصفت خطاب الرئيس الصينى بأنه «كان مثيراً للإعجاب واستراتيجيًّا»، مضيفة أنه «نداء قوى لسياسة الباب المفتوح والحوار المباشر ضد الحمائية». إعجاب حفز المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولى بوزارة الخارجية الصينية تشانج جون للتعليق بالقول إن «بلاده لا ترغب فى زعامة العالم، لكنها قد تضطر إلى لعب هذا الدور إذا تراجع الآخرون». لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;