تميز عصام محفوظ المثقف اللبنانى بأنه جمع فى عمله الثقافى بين الكتابة المسرحية والشعر والنقد الأدبى والبحث فى ميادين الفكر الإنسانى عبر ممثليه الكبار فى مشارق الأرض ومغاربها. وقدم للقارئ العربى فى هذه الميادين جميعاً معرفة واسعة، وترك للمكتبة العربية تراثاً ثقافياً غنياً. ولا يتعلق الأمر هنا بعبقرية هذا المثقف اللبنانى وحسب، ولا بكونه أبدع فى تلك الميادين الثقافية المتعددة، وحسب. بل إن ما يلفت النظر فى مثال عصام محفوظ هو أنه تطوع للقيام بعمل تنويرى وتثقيفى لأجيالنا، تجاوز كثيرين ممن سبقوه فى هذه المهمة الجليلة قديماً وحديثاً. وتمثل دوره هذا بنوع خاص فيما كتبه بعناية فائقة عن المفكرين الكبار فى عصور التاريخ المختلفة، سواء منهم الذين ينتمون إلى تراثنا العربي، أم الذين يتوزعون على تراث شعوب العالم وأممه المختلفة. إلا أن هذا العمل التنويرى الريادى الكبير لم يشغل عصام محفوظ عن متابعة عمله الإبداعى فى الشعر أولاً، ثم فى المسرح خصوصاً، ثم فى النقد الأدبي، ثم فى ترجمة أعمال شعرية منتقاة لبعض كبار شعراء العصر من أمثال إلوار وآراغون وريتسوس وجورج شحادة، ومعهم كبير شعراء الحداثة رامبو، معجزة القرن التاسع عشر الفريدة فى الشعر وفى دلالاته فى تلك الحقبة المتصلة بكومونة باريس ولما بعدها. لقد كانت الصفحة الأسبوعية فى جريدة “النهار” اللبنانية المجال المميز لعصام محفوظ. فهى قد أتاحت له القيام بمهمته التنويرية المشار إليها على أفضل وجه. وكنت مواظباً على قراءة كتاباته فيها على امتداد عقود ثلاثة. وكانت مصدراً من المصادر التى أغنت معرفتى بالكثير من القضايا التاريخية القديمة والمعاصرة، وأغنت معرفتى بالكثيرين من كبار رواد الفكر والأدب والفن، وبالكثير من الأحداث التاريخية الكبرى فى بلداننا وفى العالم. وكنت ألح على عصام دائماً لكى ينشر أبحاثه تلك فى كتب لكى يكون بإمكان الأجيال المتعاقبة الإستفادة منها. وبالفعل فقد أصدر قسماً كبيراً من تلك الأبحاث بعد تدقيقها وتنقيحها فى عدد من الكتب قبل أن يغادر الحياة. وكانت وفاته نهاية مأساوية لحياته المعاصرة. وكأنه كان يتنبأ بمأساة حياته فى حلقتها الأخيرة حين كتب بعض مسرحياته التراجيدية. بدأت الصداقة بينى وبين عصام منذ مطالع سبعينات القرن الماضي. وظلت تتوطد وتترسخ إلى أن بلغت قمتها فى العقدين الأخيرين اللذين سبقا رحيله، وحين أصيب بالشلل النصفى فى العام الأخير من حياته. كنت إلى جانبه مع شلة من أصدقائه المقربين إليه. كان عصام يعيش وحيداً عندما أصيب بجلطة فى الدماغ. وهى الجلطة التى تركت تأثيرها المباشر والعميق على كل مناطق الحياة فى جسمه، وقادته بالتدريج إلى الوفاة. ألّف عصام الكثير من الكتب. وأحب أن أتوقف هنا عند بعض هذه الكتب التى استحوذت على اهتمامي. الكتاب الأول هو الذى تحدث فيه عن رواد النهضة وصاغ حواراً متخيلاً معهم. الكتاب الثانى هو الذى تحدث فيه عن متمردى التراث. الكتاب الثالث هو الذى تحدث فيه عن ابن عربي. الكتاب الرابع هو الذى تحدث فيه عن رامبو، رائد الحداثة الشعرية فى العالم المعاصر. الكتاب الخامس هو الذى روى فيه تاريخ المسرح العربي. وهو كتاب من جزئين. الكتاب السادس هو الكتاب الذى أعطاه عنوان : “أساتذتنا فى القرن العشرين”. ويضم هذا الكتاب مجموعة دراسات تناول فيها عصام عدداً من كبار مفكرى العصر الحديث فى شتى ميادين المعرفة. أما الكتاب السابع فهو الكتاب الذى يحمل عنوان “سجالات القرن العشرين الفكرية والسياسية” الذى توقفت فيه فى شكل خاص عند شخصية “جان جوريس” أبرز أبطال الأممية الاشتراكية الذى وقف ضد دخول فرنسا فى الحرب العالمية الأولى وأرسل إليه من أطلق الرصاص عليه عقاباً له على موقفه وظل رمزاً تاريخياً للإشتراكية الفرنسية. فى قراءتى لهذه الكتب وجدت أنها تتميز بسمتين اساسيتين: السمة الأولى تتمثل فى هذا الشكل الجديد الفذ من الكتابة، سواء فى صيغة حوار متخيل مع رواد النهضة، أم فى صيغة استحضار معاصر لمواقف كبار متمردى التراث فى بلداننا وفى العالم. السمة الثانية تتمثل بالفكرة التى تحكم كل هذه الكتابة عند عصام، الفكرة التى تتمحور حول استحضار الماضى فى أرقى إبداعاته، لكى يكون فى خدمة الحاضر بهدف الانارة والتنوير. وهاتان السمتان المتكاملتان هما اللتان تجعلان من هذه الكتب والكتابات قمة فى عمل عصام محفوظ وهو يتصدى لتلك المهمة التنويرية بامتياز. ولا يسعني، وأنا أبدى إعجابى باختيار المؤلف لهذه النماذج الفذة من الرواد فى التراث العربي، وإعجابى بطريقته فى إلقاء الضوء على أفكارهم وعلى مواقفهم، إلا أن اشير إلى أن عصام محفوظ، الذى يحاور متمردى التراث هو ذاته مثقف متمرد معاصر. هو متمرد، فى الدرجة الأولى، على السائد من الأفكار. وهو متمرد حتى على السائد المهزوم المنهار من الفكر اليسارى الإشتراكى الذى انتمى إليه. وهو متمرد على السائد المبتذل من الطرائق التى جرى فيها تقديم رواد الفكر العربى إلى الأجيال الجديدة، القديم من هذا الفكر فى أزمنته المختلفة، والحديث منه فى أزمنته المختلفة. والإستثناءات القليلة الرفيعة المستوى فى تقديم هؤلاء الرواد تؤكد ما أشير إليه ولا تنفيه. بل إن عصام محفوظ هو متمرد على اللغة وعلى الأسلوب اللذين تجرى بواسطتهما معالجة ومناقشة أفكار وسير هؤلاء الرواد. الا ان تمرده الأكبر هو فى نمط حياته، فى سلوكه، فى تواضعه وفى كبريائه. إذ هو أعطى، فى مجمل هذه الأمور، صورة حقيقية ناصعة للمثقف بعامة، وللمثقف الديمقراطى النقدى بخاصة. وهو قد استمر يرفض بإباء، على امتداد حياته كلها، أن يتنازل عن ذرة من كرامة المثقف والانسان فيه، وعن قناعاته وعن انتماءاته وعن التزاماته. وكان عليه أن يدفع ثمناً باهظاً لموقفه المستقل المتمرد ذاك. إن عصام، بهذه السيرة المكتظة بالقيم، إنما أعطى للأدب وللفكر، ليس فى النصوص وحسب، بل فى تطابق هذه النصوص وتلازمها مع السلوك، معنى آخر حقيقياً للثقافة وللمثقف فى عصر عولمة الرأسمال، العصر الذى يتحول فيه كل شيء، حتى الثقافة والقيم، إلى سلع تباع وتشترى فى السوق فى أبشع الصور المعروفة والمتداولة للسوق. غادرنا عصام محفوظ قبل الوقت الحتمى للغياب. مات احتجاجاً على الزمن العربى الرديء. مات احتجاجاً على الوضع الذى أصاب الثقافة فى بلداننا، واحتجاجاً على تجاهل الدور الريادى الذى لعبه فى كل ما كتبه قديماً وحديثاً. لمزيد من مقالات كريم مروَّة;