من الفنانين مَن هو أكثر عمقاً وثقافةً من فَنِّه المتواضع.. ومنهم مَن هو علي العكس من ذلك، أي شديد الخواء وأقل كثيراً من الانطباع الذي يتركه فنه عنه.. أما الخلود فلأولئك الذين يتطابقون مع فنهم عمقاً وسُمُوَّاً، وعلي الحجار واحدٌ من هؤلاء.. هو مِرآةُ فنه مثلما أن فَنَّه مرآةُ شخصيته.. لستُ ناقداً فنياً ولكنني أتحدث بانطباعاتِ مُستمعٍ ضمن الملايين من مُعجبيه، وصديقٍ اقترب منه منذ أن شرفني بصداقته الصديقُ المشترك المبدع أسامة غريب. هو أيضاً مرآة أبيه.. ورث عن أبيه المطرب والملحن إبراهيم الحجار مزيجاً عجيباً لا يجتمع إلا في صعيدي: شدة البأس (أو سَمِّها الاعتداد بالنفس) وعذوبة المشاعر ورِقَّتها.. عندما تقرأ عن إبراهيم فكأنك تقرأ عن علي.. هذا أبٌ فنان وَرَّثَ أبناءه جينات الفن لا مناصبه .. لذلك نجح الابن وفاقت شهرتُه شهرةَ أبيه.. علي العكس من الفنانين الذين فرضوا أبناءهم علي الفن عنوةً فكان الفشل نصيبهم ونصيب الفن في آنٍ واحد.. كان الأب مطرباً معتمداً في الإذاعة لجمال صوته في منتصف القرن الماضي، إلي أن طلب منه مديرٌ متسلطٌ ومستظرفٌ للإذاعة أن يُغيّر لقب (الحجار).. لم يكن إبراهيم الحجار ممن يجيدون المجاملة أو النفاق فرفض بحدةٍ تغيير لقب عائلته ولو في إطار الهزار، ليجد نفسه فجأة خارج الإذاعة بدون عملٍ، يكابد الحياة وتكابده.. بعد ربع قرنٍ كان الابن علي يتعرض لموقفٍ مشابه .. أذكر أنني قرأت مقالاً لكاتبٍ مشهور في السبعينيات عبارة عن استظرافٍ وسخرية من لقب المطرب الجديد (وقتها) علي الحجار.. لم يتحدث عن الصوت ولا الكلمات ولا اللحن وإنما عن اسمٍ لا يليق بمطرب.. رغم (إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار).. لم يتأثر علي ولم يتخذ لنفسه اسماً فنياً واحترم فنه وأخلص له إلي أن صار (الحجار) عنواناً للعذوبة والجمال .. وبقي اسمه وسقط اسم الكاتب من ذاكرة الشعب. لا يعلم كثيرون أن علي من المُجازين من الأزهر كمقرئٍ ومُجَوِّدٍ للقرآن الكريم، ولديه تسجيلاتٌ للقرآن بصوته يختص بها بعضاً من أصدقائه ولكنها ليست للتجارة والنشر.. ولعل ذلك سر إتقانه للغناء بالفصحي.. وهو في ذلك يسير علي خطي جده، الذي كان من كبار المنشدين الدينيين. الاعتذار لله عبادةٌ وللناس شجاعة.. علي الحجار شجاعٌ وأوَّاب.. لم أعرف فناناً قبله يعترف بأخطائه علي الهواء.. هو يعتقد بيقينٍ أنه عندما يكون متصالحاً مع ربه يُلقي اللهُ في قلوب الناس محبته، والعكس صحيح .. قال لي ذات مرة: إذا أخطأتُ أبكي فأرتاح.. بكاء الرجال قوة. اكتشفه بليغ ووقع معه عقد احتكار، فلما نجحت أغنيته الأولي أَعتَقَه الكبير بليغ حمدي من الاحتكار وسمح له أن ينطلق بفنه مع غيره.. وكان (غيره) هذا هو الكبير سيد مكاوي الذي رشحه له الكبير صلاح جاهين ليغني له رباعياته.. كان من نِعَم الله عليه أن وضعه بين أيدي الكبار في مستهل صعوده.. فكان شكر النعمة أنه لم يبتذل فنه وحرص علي ألا ينزل عن هذا المستوي مهما تكن المُغريات.. ولحرصه علي تقديم الأغاني التي تخاطب الوجدان لا الغرائز، وحتي لا يجبره أحدٌ علي غناء ما لا يريد، صار يُنتج أغانيه بنفسه رغم ما في ذلك من مخاطرة. في رحلة صعوده المستمر لم يكتفِ الحجار بصيانة صوته الجميل وإنما حرص علي قوة الجناحين اللذين يُحَلِّق بهما: الكلمة واللحن.. فطار بكلمات شعراء من وزن محمود درويش وعبدالفتاح مصطفي وسميح القاسم وصلاح جاهين وجمال بخيت وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور .. وأنغام ملحنين من وزن بليغ حمدي وسيد مكاوي وعمار الشريعي وغيرهم. تقول ماجدة الجندي في أحد مقالاتها بالأهرام (ربما يحظي بعض أصحاب الركاكة، بكثيرٍ من الهيمنة والتسيُّد فتراتٍ من الحياة، لكن الناس تملك حساسيةً مدهشةً وعادلةً بحيث تضع «الصدق» وجوهر «البذل» الحقيقي حيثما ينبغي أن يكون، وبما يليق به وإن طال المدي).. وأحسب أن علي الحجار من أولئك الصادقين والمخلصين لذلك استحق حُبَّ الناس.. عندما تُصبح البذاءةُ والتلوث السمعي مجالاً للتنافس، يصبح الاحتفاء بأمثال علي الحجار فرض عينٍ علي كل مصري.. ومن واجب مُحبيه (وكاتب السطور واحدٌ منهم) أن يقولوا له: نحن نحبك.. أخي علي.. نحن نحبك وندعو الله أن يزيدك تألقاً ويرسم السعادة في قلبك بقدر ما احترمت فنك واحترمت جمهورك وأدخلت علي قلوبنا البهجة في زمنٍ عَزَّت فيه أسبابها.. يا أبا جَنَي. لمزيد من مقالات م يحيى حسين عبد الهادى;