منذ أن قررت الولاياتالمتحدة العزوف عن سياسة العزلة عقب الحرب العالمية الثانية، والتدخل بقوة في توجيه السياسة الدولية، تصاعد الدور الأمريكي وبلغ حد الانفراد والهيمنة، وربما الغطرسة، منذ مطلع التسعينيات، وعلي مدي ما يقرب من العقدين. ورغم التفاؤل الذي ساد بعض الأوساط السياسية والبحثية مع وصول أوباما للبيت الأبيض، فإن سياسات الأخير كانت أشد إيلاماً لمنطقتنا العربية، وأكثر إضرارا بصورة ومكانة الولاياتالمتحدة الدولية والإقليمية من سابقه بوش الابن. وقد حبس الكثيرون أنفاسهم خوفا من أن تخلف هيلاري كلينتون أوباما، وما يعنيه ذلك من استمرار السياسات الأمريكية الموجعة، وبشكل أشد قسوة وضراوة، وما أن فاز ترامب حتي ثار التساؤل حول مستقبل السياسة الأمريكية علي الصعيدين الدولي والإقليمي، ومدي قدرة ترامب علي إحداث تغير ملموس فيها، خاصة أنه من المعروف أن الولاياتالمتحدة دولة مؤسسات، وهناك رءوس ثلاثة، علي الأقل, تقود السياسة الخارجية الأمريكية وهي وزارة الدفاع (البنتاجون)، والكونجرس، والإدارة الأمريكية (البيت الأبيض). الواضح أن هناك ميلا لدي شريحة مهمة داخل هذه المؤسسات، وليس فقط ترامب، إلي مراجعة وتهذيب السياسة الأمريكية التقليدية التي لم تعد تتلاءم مع مستجدات الواقع الدولي والإقليمي، ولم تكلل بالنجاح في الأعم الأغلب من الحالات، علي النحو الذي يعظم المصالح الأمريكية ويعيد للولايات المتحدة بعضا من مكانتها الدولية، ويقلل من التوترات والعداءات التي أدت إليها سياسات أوباما. ورغم أنه من المبكر الجزم بشأن مدي هذا التهذيب وأبعاده، إلا إنه من واقع تعهدات ترامب وتصريحاته خلال حملته الانتخابية، يمكن تلمس ثلاثة محاور أساسية قد تشهد تغيرا ملموسا. أولها، العلاقة مع موسكو، والتي خيم عليها التوتر الشديد والحاد خلال الفترة الأخيرة، وبلغ حد استعراض القوة بين الجانبين في منطقة البلطيق والبحر الأسود والشرق الأوسط وغيرها. فقد أبدي ترامب موقفا مغايرا تجاه روسيا والرئيس بوتين، الذي يكن له «إعجابا»، علي حد قوله، وتحدث عنه باعتباره «القائد القوي» الذي يجب «التفاهم» معه. وفي أول كلمة له عقب إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، أكد ترامب »أننا نبحث عن الصداقة لا العداوة«، في رسالة واضحة للخارج الأمريكي عامة وروسيا خاصة. ومن جانبه هنأ الرئيس بوتين ترامب علي فوزه، وأعرب في برقيته عن ثقته بأن بناء حوار بين موسكووواشنطن سيخدم مصالح البلدين والعالم. الأمر الذي يشير إلي إمكانية خروج العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة من حالة التأزم التي تمر بها منذ خمس سنوات تقريبا، وحدوث انفراجة وشيكة في العلاقة بين البلدين ستلقي بظلال واضحة علي الملفات والقضايا الإقليمية التي تعقدت علي خلفية التناقض وتراجع التفاهم بين واشنطنوموسكو. المحور الثاني، يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه ملف الإرهاب، والتي ظلت ضبابية ومليئة بالتناقضات بين سلوك لفظي يدين الإرهاب ومواقف وعمليات هنا وهناك تدعمه أو علي الأقل تحول دون بتره والقضاء التام عليه. فقد انطلق ترامب من موقف مبدئي مناهض للإرهاب الاسلامي وداعش، واتهم ترامب كلا من أوباما وهيلاري كلينتون بأنهما مشاركان في تأسيس التنظيم الإرهابي، وانهما يدعمان داعش،وأبدي موقفا مغايرا عن النهج الأمريكي حيث اقترح حلا جذريا للقضاء علي داعش يقوم علي قطع رءوس أفراد التنظيم الذين وصفهم بالحيوانات، وهدد ترامب بأنه سوف يقوم بقصف آبار البترول في العراق، لحرمان «داعش» من أهم مصادر تمويله، ومهاجمة كل المنصات الإلكترونية التي يستخدمها التنظيم في الدعاية وتجنيد المقاتلين. وأعلن أنه سوف يأمر القوات المسلحة بقتل عائلات الإرهابيين الذين يهددون الولاياتالمتحدة، بما لا يخالف القانون الدولي أو الأمريكي. في هذا السياق، رفض ترامب فكرة تسليح المعارضة السورية، انطلاقا من أن الولاياتالمتحدة ليست علي دراية بماهية المتمردين الذين يمكن أن تساعدهم ضد بشار الأسد. كما رفض استقبال الولاياتالمتحدة للاجئين السوريين، بل هدد بمنع جميع المسلمين من الدخول إلي الولاياتالمتحدة حتي يقوم نظام الهجرة بتحسين إجراءات الفرز. وعبر عن تأييده لبشار الأسد كقوة تواجه داعش، الأمر الذي ينطوي علي تحول جوهري في الموقف الأمريكي من الأزمة السورية يسمح بتسوية ما لها. كما أعلن ترامب أنه سوف يوقف استيراد النفط من المملكة العربية السعودية، ما لم تشارك الأخيرة بجيشها في قتال تنظيم داعش أو تعوض الولاياتالمتحدة عن الجهود التي تبذلها في محاربة التنظيم. وطالب دول الخليج بتحمل تكلفة إقامة مناطق آمنة في سوريا. كذلك، شدد ترامب علي أن العراق أصبح ملجأ للإرهابين، وأن الولاياتالمتحدة يجب أن تأخذ أموالا من عائدات النفط العراقي، لتعويض عائلات الجنود الأمريكيين الذين قُتلوا أو أُصيبوا في الحرب العراقية.وتباهي بأنه كان من بين المعارضين لغزو العراق، وإنه لطالما حذر من النتائج الكارثية لهذه الحرب. المحور الثالث، يتعلق بعدد من الملفات الإقليمية المهمة، لعل في مقدمتها الملف الإيراني، فقد رفض ترامب الاتفاق النووي مع إيران، واعتبره تهديدا لأمن الولاياتالمتحدة وأمن إسرائيل، متوعدا بأنه في حال انتخابه سوف يقوم بإعادة التفاوض بشأن هذا الاتفاق، و«تفكيكيه»، واعتبر تدمير طموحات إيران النووية بأي وسيلة هدفه الأول، وأكد ضرورة إعادة تشديد العقوبات الاقتصادية علي طهران. وتظل القضية الفلسطينية هي أضعف حلقات توجهات ترامب المتوقعة، حيث أبدي تأييدا غير مسبوق لإسرائيل ووعد بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس، وأن تكون اسرائيل أول دولة يتوجه إليها في زيارة رسمية، وأعلن التزامه بأمن إسرائيل، مؤكدا ضرورة اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل كدولة يهودية، ووقف جميع الهجمات الإرهابية ضدها، من وجهة نظره، الأمر الذي لا يوحي بتحريك جدي في عملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية. وفيما يتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية أكد ترامب، خلال لقائه بالرئيس السيسي علي هامش اجتماعات الأممالمتحدة في سبتمبر الماضي، دعمه مصر في حربها ضد الارهاب، وأنه سيعيد واشنطن كشريك يعول عليه بالنسبة لمصر، وقد يمثل وصول ترامب للبيت الأبيض بداية صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين تكون أكثر دفئا واحتراما للمصالح الوطنية المصرية. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ