منذ عام تقريبا ألقى الرئيس الروسى فلاديمير بوتين خطابا فى افتتاح جلسة الأممالمتحدة، حدد فيه أن العالم مواجه بخطر الهمجية والفوضى فى عالم القطب الواحد. ورغم وضوح الانحيازات الروسية ومواقفها العملية، بل العسكرية، فإن هناك تيارا مصريا دائم التحفظ على روسيا. تحفظات لا تتراجع رغم ازدياد الموقف الروسى فى الشرق الأوسط صلابة وعنادا. فالتشككات المتبادلة بين قطاعات من الروس والمصريين تبدو واضحة فى تلقى الرأى العام لمواقف هى فى حقيقتها مواقف تقنية أو سياسية عادية، كبطء الروس فى السماح بعودة السياحة إلى مصر أو تحفظهم على قضايا القمح والخضراوات.. إلخ. وعندما تظهر تلك المواقف ترتفع نغمات معزوفة التشكك فى نيات الروس أو قدراتهم، فالتشككات المتبادلة بين البلدين لها جذور، وهى تلقى بظلالها على وعى وثقافة الساسة والفنيين وفرق العمل فى البلدين العظيمين. فلقد كان للقادة الروس مقولة (إن العرب يقلعون مع الروس حتى يهبطوا مع الأمريكان). وهى مقولة تعنى أن العرب يستخدمون موسكو كسلم للتفاوض مع الأمريكان، وأن العرب ينتهون دوما فى أحضان أمريكا. وأصول هذا التشكك تمتد من الموقف المصرى ضد الاتحاد السوفيتى فى السبعينيات وما تلاه من مواقف. فالجيل الحاكم فى روسيا اليوم تشكل وعيه فى أثناء فترة الحكم السوفيتى وأمجاده، وامتداد الدولة السوفيتية حول العالم الثالث تحديدا. وكانت مصر هى أكثر نجوم ذلك الزمان توهجا فى عصر الرئيس عبدالناصر، ولكن وعيهم أيضا يمتد إلى مرحلة أخرى انقلب فيها التوهج إلى ليل مظلم بعدما بدا أنه غدر مصرى بهم. ففى مناورة سياسية حادة استهدفت نقل مصر إلى قلب المعسكر الغربى ودول البترودولار، طلب السادات من الخبراء الروس عام 1972 مغادرة البلاد. كان القرار مفاجئا للروس، واعتبروه مهينا، فلقد سقط من الروس جنود وطيارون. فالسادات لم يطرد الروس من مصر فقط، بل تقمص دور قائد الحرب الصليبية ضد الروس فطاردهم حول العالم من خلال اتفاقات عميقة مع السعودية وقيادات الغرب، فلقد اعتبر أنه يخوض حربا صليبية ضد الاتحاد السوفيتى. ففى السودان شجع النميرى على إعدام (الشفيع الشيخ) رئيس اتحاد عمال السودان والحائز على نجمة لينين، رغم طلب السوفيت منه التوسط لإنقاذ الرجل، وفى القرن الإفريقى شجع الصومال وساعدها على إشعال حرب مدمرة ضد إثيوبيا وضد زعيمها منجستو المتحالف مع السوفيت.. أما أفغانستان فلقد كانت ذروة الدور المصرى فى العداء للروس. فلقد كان السادات يطالب الأمريكان علنا بالتدخل ويحثهم على التخلى عن عقدة فيتنام. ولم يقتصر الدور المصرى على مجرد الدعاية، بل كان أساسيا فى فتح الطريق للاسلاميين للذهاب إلى أفغانستان تحت اسم الجهاد. ويستطيع المرء أن يقول إن مصر كانت حينها أحد المخرجين العظام للمشهد الأفغانى، وكانت مؤسسا وموردا عظيما للمرتزقة الإسلاميين. ولقد بنى السادات وتبنى نهجا واسعا معاديا للروس أو السوفيت، بل كانت قناعته أن هذا العداء للروس أو السوفيت ضرورى لزيادة قيمة مصر وسط عالم الغرب. ولما كان أغلب الساسة والتكنوقراط المصريين حتى اليوم هم أبناء لتلك الحقبة، فلا يزال العديد منهم عاجزا عن رؤية التاريخ الحقيقى للعلاقات الروسية المصرية، وحقيقة أن روسيا ذاتها تطورت وتكونت فى صراع وتناقض مع الغرب. فروسيا، ومثلها فى هذا مثل الصين والهند، لا تستطيع أن تكون دولة استعمارية حتى لو أرادت، فمسار الكيان الروسى والصينى أقرب إلى شعوب العالم الثالث، فتلك الدول لم تكن أبدا فى قلب مسيرة الثورة الصناعية ونشوء الرأسمالية والاستعمار. فهذه المسيرة التى استمرت 400 عام ليست تاريخا يمكن تجاوزه ببساطة، فهى واقع حى حتى اليوم، ومازال موجودا فى مدن العالم العظيمة، من لندن إلى نيويورك إلى برلين وباريس وأمستردام. فتلك العواصم وتلك الدول هى صانعة العالم ومدنه وخرائطه وصانعة الحروب. والساعية لتصفية أى دور للقوى الإقليمية، ولأى شكل من أشكال استقلالية القرار. وتتشكك دوائر مصرية دوما فى نيات الروس، ويصفونهم دوما بالبطء وبعقد صفقات سرية مع الأمريكان من أجل تجميد الوضع فى الشرق، وأنهم حلفاء يسعون لتدمير حلفائهم حتى تتعزز أقدامه! هذا الإرث الفكرى والسياسى هو نتاج عصر السادات، ولا يوجد فى حقيقة الأمر ما يؤكد أنه ليس أكثر من دعاية روجها الرئيس السادات لتبرير قرارات انتقاله إلى معسكر الولاياتالمتحدة والغرب والبترودولار. وتنكر دوائر مصرية أيضا قدرات الروس، ويتعامون عما هو واضح وضوح الشمس. وهو أن روسيا اليوم هى دولة عظمى، وذات قدرات عسكرية كبيرة، وتقاليد علمية صارمة. وأنها قادرة وأنها هى الأخرى تخوض صراع حياة أو موت، بعد أن اقتربت منه مع انهيار الاتحاد السوفيتى. إن تاريخنا فى مصر مع روسيا والاتحاد السوفيتى ليس ناصع البياض، بل لطخته قرارات سياسية مصرية كبدت مصر وروسيا ثمنا باهظا، إن الانحياز الروسى لمصر صار واضحا وضوح الشمس، فها هى الامكانات الفنية للأقمار الصناعية الروسية تمد مصر بمعلومات بالغة الأهمية عن تحركات الارهاب والمرتزقة الارهابيين فى ليبيا، وغير ذلك من الأمثلة المهمة تمتد بعرض المنطقة، من ليبيا لسيناء لسوريا والعراق ويجب علينا أن نتعلم من دروس الماضى، فمنها ما كان شديد الإيلام وباهظ الثمن، لقد لعبت مصر فى السبعينيات دورا محوريا فى صنع عالم القطب الواحد، ولكن المصالح المصرية اليوم تحتم على الشعب المصرى وقيادته أن يكونا فى طليعة الشعوب الساعية بإصرار للتخلص من إسار السحر الأسود لهذا العالم. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;