بشوق ولهفة كنت انتظر انتصاف اليوم وتراجع لهيب الشمس لأجلس بجوار جدتى على «المصطبة» الملاصقة لبيت العائلة الكبير.. دقائق معدودة لكنها كانت كفيلة أن تمنح قلبى الدفء الذى يفتقده منذ رحيل والدى فى ريعان شبابه إثر حادث أليم وانشغال أمى فى العمل لتوفير متطلبات الحياة لى ولشقيقتى الصغرى. كانت «المصطبة» من الطوب اللبن الذى لا يتأثر بحرارة الجو وبجوارها طلمبة «حبشية» ماؤها البارد مقصد كل المارين فى الشارع. كانت جدتى «بركة», كما كان يطلق عليها أهالى القرية. فعندما يصاب أى شخص بكدمة أو «جزع» كان يأتى إليها, و بقليل من الزيت مع قطعة صوف «تدعك» موضع الألم فينصرف المصاب موقنا بأنه سيتعافى سريعا. والغريب أنه كان يبرأ وبسرعة عجيبة، رغم أنهم كانوا يأتون إليها للتبرك بيديها أكثر من التماس العلاج.أما أنا فلم أكن مقتنعا بكل ذلك, لكننى كنت مستمتعا بهذه الأجواء إلى أقصى حد. كان يوم الجمعة أكثر يوم أشعر فيه بالضيق. فقد كان جدى يستقبل بعد صلاة العصر عددا من الجيران وكبار العائلات لاحتساء الشاى ومناقشة مشاكل القرية، وهو ما كان يمنع جدتى من جلسة المصطبة اليومية، فكنت أترك البيت فى هذا اليوم وألعب مع زملائى كرة القدم وأعود بعد غروب الشمس. اشتهرت «مصطبة» جدتى بأنها ملجأ لسيدات القرية إذ كانت تستمع لمشكلاتهن بأذن صاغية وبدون ضجر. وعندما تبدأ فى الحديث يصمت الجميع.. كانت آراؤها حكيمة جريئة لا تعرف المجاملة، ولم ألحظ يوما أى رد فعل غاضب من أى سيدة تُحملها جدتى مسئولية مشكلة ما، بل كان أغلبهن يتمتمن بكلمات تعبر عن الاقتناع والطاعة مثل «حاضر.. اللى تشوفيه يا حاجة.. هعمل اللى قولتى عليه»، ثم يقبلن يدها وينصرفن. احترت فى قدرة هذه السيدة النحيفة، التى يندس جسدها المحنى لتقدم العمر فى ثوب فضفاض، على ترويض سيدات يواجهن بشراسة سطوة أزواجهن.. وعلى الرغم من أن أغلب أفراد العائلة كانوا يترددون كثيرا قبل الحديث معها خشية أن تصيبهم سهام نقدها اللاذع، فإننى على وجه الخصوص كنت أحظى لديها بمكانة كبيرة تصل إلى «التدليل». فقد كنت حفيدها الأول، وكنت سعيدا بهذه المكانة التى يحسدنى عليها الجميع. كانت جدتى فى شموخها مثل الجبل. لكنى كنت الوحيد الذى لا تستطيع أن تخفى أمامه دموعها فتستسلم لأحزانها. كانت تحدثنى عن والدى الذى أنجبته بعد عامين من زواجها، وكيف أنه كان أجمل فرحة فى حياتها.. تصمت وتشرد قليلا ثم تجهش بالبكاء عندما تتذكر يوم وفاة فلذة كبدها. كان انهيارها يصيبنى بالقلق, فهى دائما قوية الشكيمة متماسكة، كما كانت لى بمثابة السند والحضن الدافئ منذ أن تفتحت عيناى على الحياة. كنت أجد فى عيون أبناء أعمامى غيرة لجلوسى فى «حجر» جدتي. كان بعضهم يتقرب منها فتقبله وتضمه بحنان وتعطيه الحلوى ثم توجه أنظارها صوب مريديها من نساء القرية اللاتى كن يجلسن بترتيب الحضور حتى يأتى دور كل منهن. مرت الأعوام والتحقت بالجامعة, وغادرت قريتي, وكنت أعود إليها فى أيام الإجازات. كنت انتظر شروق الشمس لأستعد لاحتساء الشاى مع جدتى على «المصطبة» قبل قدوم زوارها. كانت تقابل مداعبتى لها, بأننى أتمنى أن تعود الأعوام للوراء لأجلس مجددا فى «حجرها», بضحكة مدوية نادرا ما تصدر عنها. وقبل أن أحزم حقائبى للعودة إلى الجامعة، كنت أذهب لجدتى لأقبل يديها, فكانت تذكرنى دائما بحلمها أن ترانى طبيبا ذائع الصيت، وبأن اخصص عيادة فى قريتى لعلاج الفقراء مجانا. وكلما ذكرتنى بهذا الأمر، كنت أعاهدها على تنفيذ وصيتها. فى عامى الأخير بالجامعة، وقبل تخرجى بشهور، رحلت جدتى تاركة بقلبى جرحا كبيرا لم يلتئم، وذكريات مبكية ومضحكة هى الأجمل والأحزن بالعمر. لكنى ،رغم أحزانى، نجحت بتفوق وتخرجت فى الجامعة، وعملت فى عدة مستشفيات، رافضاً أن أفتتح لنفسى عيادة خاصة، فقد ظلت وصية جدتى تؤرق مضجعى، فذهبت إلى جدى وطالبته بأن يشترى قطعة الأرض المواجهة لمنزلنا، متعللا بعدم حاجتنا إليها، لكنى صممت على أن أشترى جزءا من هذه الأرض وسط اعتراضات واحتجاجات كل أفراد العائلة، وكلفنى هذا ميراثى من والدى كاملاً، إضافة إلى اقتراض مبلغ لا بأس به أيضا. لكنى لم أهتم بذلك، فقد أقمت على هذه الأرض العيادة المجانية التى أوصتنى بها جدتي، وكلما كنت أستقبل مريضا من فقراء القرية، كنت أطل من شرفة غرفة الكشف على «المصطبة».