بغض النظر عن كونها قضية هامشية مقارنة بالمآسى التى يعيشها العالم بخاصة فى الجانب الذى يقطنه العرب والمسلمون حيث تسيل الدماء يوميا ويشرد النساء والأطفال ، فإن الغرب منشغل اليوم بقضية «البوركيني» أو «المايوه الشرعي» ليضيف اختبارا جديدا لحقيقة التشدق بالحرية وحقوق الإنسان، ويسفر عن دليل آخر على ازدواج المعايير. ومن ثم لم يعد المرشح الرئاسى الأمريكى ترامب الوحيد الذى يجتزئ الحرية وينتقص منها إذا تعلق الأمر بالمسلمين، وفقا لبيانات حملته الانتخابية، وإنما وصل النكوص عن هذا المفهوم إلى أيقونة الحريات: فرنسا التى انطلق منها الفكر التنويرى بثلاثية الثورية المشهودة (الحرية والمساواة والأخوة) .. فقد أعاد مشهد قيام رجال الشرطة الفرنسية بإجبار امرأة مسلمة على خلع «البوركيني» على شاطئ بمدينة نيس، الجدل حول ازدواج المعايير المتعلقة بممارسة الحريات فى الغرب، لتضاف هذه القضية إلى تاريخ من العدوان على الحرية اذا تعلقت بالمسلمين، مثل قضايا الحجاب والمساس بالمعتقدات والمقدسات الإسلامية. البوركينى الذى ظهر عام 2003، وينسب إلى مصممة الأزياء الأسترالية من أصل لبنانى عاهدة زناتي، وحصل على براءة اختراع، وصار علامة تجارية عام 2007، كان موجها للسباحات كلباس بديل عن اللباس المتداول، «البكيني». وترتديه النساء المحتشمات كى يعطيهن حرية أكثر لممارسة رياضة السباحة ،ولكنه تحول فى صيف 2016 لموضوع جدل واسع فى فرنسا، بعد قرار بلديات هناك بمنعه على شواطئها، بحجة أنه رمز ديني. والمفارقة هنا ان مصممة هذا اللباس، اخترعته «لإعطاء الحرية للمرأة المسلمة المحجبة وليس لأخذها منها» على حد قولها فى مقال بصحيفة «الجارديان» البريطانية. الجديد ان بعض السياسيين دخلوا بورصة المزايدات على الحريات المبتورة لينحازوا إلى حرية المرأة فى التعرى ضد حريتها فى الاحتشام !! فقد قال الرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى - الذى اعلن نيته للترشح للرئاسة - إن «البوريكي» يسبب استفزازا وقد يدعم الإسلام المتطرف»، وسبقه تأييد رؤساء البلديات الفرنسية لقرار حظره على الشواطئ، فى المقابل ،ترفض القرار سياسيون فرنسيون ومنظمات مدنية حقوقية،تفقد انتقد الناطق باسم الحزب الشيوعى الفرنسى أولفييه دارتيجول -فى لقاء تليفزيوني- منع «البوركيني». والموقف نفسه عبر عنه سياسيون آخرون من خارج أوروبا مثل رئيس الوزراء الكندى (جاستن ترودو) الذى دافع عن الحريات الدينية، ومنها حق ارتداء لباس البحر الاسلامى «البوركيني»، معتبراً أنها رمز ل «قبول الآخر فى مجتمع منفتح». والبروكينى ليس مقصورا على المسلمات وإنما يفضلنه بعض النساء المحتشمات من اديان اخرى فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أنا لكاتبة المتخصصة بشئون الطعام والتغذية، المذيعة البريطانية نايجيلا لاوسون، ارتدت «البوركيني» على أحد الشواطئ الأسترالية عام 2011 بمحض إرادتها. كما نشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لراهبات بزيهن المحتشم على أحد الشواطئ الأوروبية..توفيتبلجيكا، حاول المنتزه الوطنى الفلامانى حظره، لكن أغلب الفاعلين فى المجال السياحى رفضوا الخطوة.وفى النرويج والسويد، لا توجد مشكلة فى ارتداء «البوركيني»، بل إن بعض المسابح توفر خدمة تأجيره للراغبات به. العجيب أن حظر البوركينى يناقض ليس فقط مبادئ الحرية ، وإنما ايضا الدستور الفرنسى الذى يضمن هذه الحريات، لذلك فقد عطلت المحكمة الإدارية العليا فى فرنسا قرار حظر ارتدائه.وقالت المحكمة إن قرار الحظر «يمثل انتهاكا واضحا وخطيرا للحريات الأساسية فى الحركة، والعقيدة والحريات الشخصية.» ويعد القرار سابقة مهمة لنحو 30 مدينة أخرى فرضت حظرا مماثلا على ارتداء البوركينى على شواطئها.ويعنى قرار المحكمة أن الحظر الآن يمكن تعليقه فى كل البلدات التى فرضته. لذا رحبت منظمة العفو الدولية بالقرار. وقال مدير المنظمة فى أوروبا، جون دالهوسن، أن الحظر « لا يعزز السلامة العامة لكنه يرفع من المهانة العامة.» لكن عمدة كورسيكا تعهد بالإبقاء على الحظر على شواطئ جزيرته.» كما أن هناك إصرارا كبيرا لدى غالبية عمد المدن الفرنسية على تفعيل الحظر انطلاقا من فهم خاص للحرية مفاده : لك الحق فى ممارسة الحرية التى تروق لى انا الغربيا و ليس من حقك أن ترتدى ما تراه مناسبا وإنما ما أراه انا مناسبا!!، وهو فهم يناقض مفهوم العالم اجمع لمبادئ الحريات وحقوق الإنسان ، ويضيف دليلا جديدا على ايمان الكثيرين من الغربيين بأن هذه المبادئ تستهدف فقط حماية حرية وحقوق الإنسان الغربى ضد اى خطر، أما تمتع أبناء الشرق بها، فمسألة فيها نظر! حتى كتابة هذه السطور لم يصدر القرار النهائى للمحكمة، لذا يبقى السؤال-العنوان مثارا : هل يعرى «البوركيني» الغرب فى اختبار الحرية ؟! لمزيد من مقالات د. محمد يونس