الموافقة على تعديلات قانون مجلس الشيوخ :إعادة توزيع مقاعد القوائم وزيادة التأمين إلى30 ألف جنيه للفردى    المنظمات الأهلية الفلسطينية: أكثر من 70 ألف طفل مُصابون بحالات متقدمة من سوء التغذية في غزة    الفريق أحمد خليفة يبحث التعاون العسكرى مع فرنسا    أحمد سمير: الفوز على بتروجت كان مهماً.. والزمالك سيتحسن    منتخب مصر للناشئين يترقب قرعة كأس العالم تحت 17 سنة.. غدا    وكيل تعليم القاهرة تتفقد أعمال لجان النظام والمراقبة بامتحانات الترم الثاني    31 مايو، روبي تحيي حفلا غنائيا في العين السخنة    وزير الصحة: مركز الإسعاف الجديد يقلص زمن الاستجابة للحالات الطارئة    أستاذ تمويل: البنك المركزي يتجه لخفض الفائدة لإنعاش الاقتصاد    محافظ قنا يكرم الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير ويشيد بدور الأسرة والمدرسة في رعاية المواهب    رئيس «برلمانية التجمع»: وافقنا على قانون الانتخابات لضيق الوقت ولكن نتمسك بالنظام النسبي    مظاهرة حاشدة في طرابلس تطالب بحل مجلسي النواب والدولة وتفكيك الميليشيات    لبنان بين الاقتراع والإعمار.. جدل السلاح يعيد رسم المشهد الانتخابي.. الانتخابات البلدية تمثل لحزب الله محطة مفصلية أكثر من أي وقت مضى    انقطاع الكهرباء بفرنسا وزلازل وحرائق.. المشهد الفلكي كما توقعته وفاء حامد    مدير تعليم الفيوم يجتمع مع لجان المديرية لمتابعة امتحانات الفصل الدراسي الثاني    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 24-5-2025 قبل عودة البنوك للعمل    موسم الطيور الإنجليزية.. حينما ترفرف الأجنحة نحو البطولات.. «النسر» يعود من بعيد و«الدجاج» يخرج بالبطولة الأوروبية.. و«غراب الماء» يستعيد أمجاد مواسمه الذهبية    فليك يحدد هدفه مع برشلونة في الموسم المقبل    كم سعر المتر في مشروع سكن لكل المصريين 7 لمتوسطى الدخل    دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي الحجة لعام 1446فى هذا الموعد    خلية عمل لخدمة 78 ألف حاج مصري.. استقبال مهيب لحجاج القرعة في المدينة المنورة.. وتفويج "آمن" إلى مكة المكرمة    نوال مصطفى تكتب: صباح الأحد    فعاليات وزيارات للترويج.. السياحة والآثار فى أسبوع    نغم صالح تحتفل بإطلاق ألبومها الجديد "شلق" في مسرح الجيزويت    الكل حزين.. تجمع الأهالى أمام منزل الشيخ سيد سعيد انتظارا لوصول جثمانه.. فيديو    فرقة ديروط تقدم «السيد بجماليون» على مسرح قصر ثقافة أسيوط    اليوم.. عرض أولى حلقات برنامج مسيرتي ل جورج وسوف    ذكرى مرور 123 عاما على الإسعاف في مصر.. قصة نشأته ودلالة شعاره    اغتنم فضلها العظيم.. أفضل الأدعية والأعمال في عشر ذي الحجة ويوم عرفة 2025    وزير البترول يتفقد مشروعات شركة فوسفات مصر فى أبو طرطور بالوادى الجديد    وزير الصحة يترأس اجتماع مجلس إدارة صندوق مواجهة الطوارئ الطبية والأمراض النادرة    وصول دفعة جديدة من أطباء الجامعات المصرية إلى مستشفى العريش العام تضم 21 طبيبا بمختلف التخصصات    أخصائية اجتماعية تكشف أسباب ظهور سلوكيات عناد وعصبية الأطفال    شديد الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس غدًا    الدفاعات الجوية الأوكرانية تعترض 245 طائرة مسيرة روسية    مسلم يرد من جديد على منتقديه: كفاية بقى    محمد رمضان يروج ل فيلم "أسد" بصورة جديدة من الكواليس    النفط يسجل خسارة أسبوعية وسط ضغوط محتملة من زيادة إنتاج «أوبك+»    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    هيثم فاروق: أثق في يورتشيتش وبيراميدز لن يعود للدفاع في الإياب أمام صن داونز    الأهلي يفرض سيطرته على الألعاب الجماعية ب22 لقبًا.. وموسم "باهت" للزمالك    محافظ سوهاج يستقبل رئيس حزب الناصري    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    اتحاد الصناعات: الدولة تبذل جهودا كبيرة لتعميق صناعة حديد التسليح محليًا    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    محمد صلاح يعادل إنجاز رونالدو وهنري ودي بروين    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    التشكيل الرسمي لصن داونز أمام بيراميدز بذهاب نهائي دوري الأبطال    «لافروف» يكشف عمل موسكو على وثائق متطلبات تسوية الحرب الروسية الأوكرانية    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعراوى
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 06 - 2016

«مصر الكنانة التى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها في رباط إلى يوم الدين».. ذلك الهتاف القادم من نبع الشجن يخترق الأستار ليلمس شغاف القلب فتندفع الدماء الحارة فى الشرايين، لترتفع نسب الأدرينالين ليغدو الوطن فوق الجميع.. تلك الصرخة المباركة المستنهضة للهِمم، المُحفزة للأمام، الدافعة لاستكمال المشوار، كانت زادًا وزوادًا ووشائج روابط لا تنفصم، وخلفية تعبيرية للمشهد الثورى العظيم في ثورة 30 يونيه.. الصوت الشجي المذاب فى بوتقة الإيمان الذى يواكب أسماعنا بالدعاء بعد كل أذان للصلاة «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته إنك لا تخلف الميعاد وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين».. صوت وأداء فضيلة إمام الدعاة الشيخ محمد متولى الشعراوى العالِم الفقيه الحكيم المتمرس بقراءة وتفسير القرآن الكريم إلى حد الذوبان التام في رحيق كل حرف من حروفه ليغدو بالنسبة له ولنا ليس كتاباً سماوياً للحفظ عن ظهر قلب، وإنما دستور قد تحقق وعالم قد أضاء وشجرة زيتونة يكاد زيتُها يضىء ولو لم تمسسه نار. القرآن حياة، تشريع، شطآن آمنة يقودنا إليها فضيلة الشيخ الشعراوى حتى لتشعر بأنك مهما تكن قد قرأت القرآن وحفظته عن ظهر قلب فإن استماعك إليه عبر حديث الشيخ الجليل يُقنعك فى الحال أنك لم تكن عرفت القرآن من قبل على حقيقته، فهو الذى لم يكن مجرد فرد يتحدث، ولا مجرد واعظ أو داعية وهبه الله عِلماً غزيرًا، ولا مجرد إمام يقتديه الناس في صلواتهم وسلوكهم، وإنما كان الشيخ الشعراوى أمة تتحدث.. فتحاً فتح لنا جامعة على الهواء. جامعة شعبية باهرة وحّد فيها بيننا رغم اختلاف الأعمار والأنماط والمستويات.. رجل جَعَلَ من ساعة درسه موعدًا ولقاء وشوقاً إلى لحظات تعلو فيها النفس على البغضاء وتصفو إلى فطرتها السليمة، وتتطلع إلى قيمنا الدينية ومتعتنا الروحية، وفى ذلك لم يكن شيخنا أبدًا مرددًا ما قاله السابقون، وإنما كان نسيجاً وحده فى طريقة التفسير، فقد كان مفكرًا بقدر ما هو عالم، وكانت معرفته بدقائق اللغة وإدراكه أن كل لفظ فى كتاب الله لم يوضع عبثاً، بل وُضِّعَ لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، ولولا بعث الله بالشيخ الشعراوى في زماننا الحالى بالذات لدخل المسلمون القرن الحادى والعشرين بتفسيرات للقرآن ترجع إلى القرون التى مضت، وهذه إحدى ملامح أهميته التاريخية.. ولقد كان صوفيًا بطريقته الخاصة التى يختلط فيها الإيمان بالعلم على درب الشيخ محمد عبده الذى يؤمن بأن العلم مدخل للإيمان الصحيح، على هدى الآية الكريمة: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» فهم يتأملون في الوجود ويرون آثار قدرة الله، فيرجون الله ويخافونه.. وكان تَفَرَُد الإمام الشيخ الشعراوى عن غيره من علماء الدين بأنه لم يلجأ أبدًا فى شروحه وتفسيراته لآيات الله إلى الاستشهاد بما كان يلجأ إليه غيره من القصص الخرافية والغرائب، وإنما كان على الدوام يحترم عقول السامعين باستشهاداته من حياتهم اليومية أو ما يمارسونه ويألفونه، بلغة سلسة، ولهجة محببة تصل على الفور إلى عقولهم وقلوبهم، ومن هنا تميزت لقاءات الإمام الشعراوى بسامعيه بظاهرة فريدة لم يسبق لها مثيل، وهى صيحات الاستحسان المتكررة التي تنطلق من حناجرهم على طول تفسيراته: الله الله! ومتى يصل الاقتناع إلى حد انطلاق كلمة الله من الأفواه فذلك شيء لم نعرفه إلا فى لقاءات الشعراوى بسامعيه...... وها أنا من بعد ما قلت له عبر الشاشة الله الله الله أصطحب ابنى إليه عندما كان الشيخ جارًا للحسين في عام 1985 ذهبت إليه لأنى أحبه ولأن والدى كان يحبه ولأن ابنى ورث عنا حبه، فيُهدينى مصحفًا ويلصق في باطن غلافه الأخير بطاقة تحمل توقيعه يدعونى فيها بالابنة العزيزة من بعد دعواته الغالية المكرمة، ويحادث زوجى بوعد أن يقوم بعقد قران النجل العزيز الذى ذهب معى إليه ليفسر له ما يستغلق على فهم الشباب المسلم من أمور دينهم..
صاحب الفتوحات الإلهية (1911 1998) التي أفاضها الله سبحانه وتعالى عليه ووصفها عند سؤاله من أين لك كل هذا العطاء فكان جوابه أنه «فضل جود لا بذل مجهود». عرف أول طريق للإذاعة عام 1950 عندما كان يكتب حديثين أحدهما ليقرأه رئيسه الذى يتقاضى عشرة جنيهات، والثانى يذيعه الشعراوى بنفسه بأجر 170 قرشاً تضم مصاريف السفر من طنطا إلى القاهرة ذهاباً وعودة، وبعد خمسة أسابيع يجىء التقرير المجحف بأن صوته غير ميكروفونى ولا يصلح لإلقاء الأحاديث!!!
الشعراوى الذى اعتُقل في شرخ الصبا وسُجنَّ لتزعمه الحركة الطلابية وفُصلَّ من الأزهر بسبب ثوريته، وظل معجباً بالنحاس باشا، وكتب بيده أول منشور سرى لجماعة الإخوان ثم اختلف وقرر الابتعاد عنهم، وصلى صلاة الشكر بعد نكسة يونيه «لأن الهزيمة جاءت من عند الله لتصويب أخطائنا التى ارتكبناها»، إلا أنه عاد بعد ربع قرن ليذهب إلى قبر عبدالناصر ويقف أمام العدسات ليُعلن أنه رأى عبدالناصر فى المنام موضحاً أن بعض القادة قد يتخذ من القرارات ما تُمليه عليهم الظروف الدولية والإقليمية، وتظهر الأحداث أن عبدالناصر كان قد رشحه لأمانة الفكر فى التنظيم الطليعى، ويقول الشعراوى إنه كان على موعد مع عبدالناصر تأجل ثلاث مرات وفي الرابعة توفى الرجل.. ويسأله السادات: هل صحيح أنك لا تقعد على مكتبك فى الوزارة وتجلس بعيدا عن كرسى بجوار الباب تستقبل الزوار؟! فأجاب الشيخ الوزير: أيوه ياريس صحيح الكلام ده، بقعد علي كرسى خيرزان جنب الباب علشان يبقى الباب قريب وساعة ما ترفدونى أجرى وأقول يا فكيك»، وفى مقتل السادات قال عن القتلة «إنهم واهمون وأنهم أغبياء إن ظنوا أنهم قد انتقموا منه، فهو قد سقط شهيدًا أما هم فقتله مجرمون».. وعلى غير موعد وبدون سابق معرفة ذهب اللواء محمد نجيب لزيارة الشيخ فى شقة الحسين، وكان نجيب مليئاً بالمرارة مما جرى له على مدى سنين طويلة مُلقى به في معتقل المرج مع القطط والكلاب، وعلى باب البيت وقف يقول للحارس الذى لم يتعرف عليه: «قل للشيخ واحد اسمه محمد نجيب عايز يقابلك»، ورد الحارس: «الشيخ نايم دلوقت يا عم نجيب»، وكان الشيخ بالفعل نائمًا فعاد يقول له: «يا ابنى أنا محمد نجيب اللى كنت رئيس الجمهورية» فهرعَ الحارس وقتها فقط للشيخ يوقظه..... الشعراوى صاحب الفيض العظيم الذى يقول عنه عبدالنعيم شمروخ مخرج برنامجه التليفزيونى «حديث الشيخ الشعراوى على مدى 20 عاماً»: لو تركته يتكلم لمدة خمس ساعات فلا هو ولا أنت تشعران بالوقت الذى انقضى، وكنا نُشير له قبل انتهاء مدة البرنامج بدقيقة أو أقل كى يُلخص الفكرة العامة ويختم البرنامج، وأبدًا لم يكن يتذكر ما قاله، حتى أن عطلا فنيا أوقفنا مرة وطلبنا منه إعادة ما قاله بنفس ترتيب التسجيل السابق فغضب بشدة، لأنه فى الإعادة يفسر الآيات ويستعين بصور وبلاغات مختلفة تماما عما ذكره مسبقاً.. وفى مسيرة الدعوة الإسلامية زارَ الشيخ الشعراوى فى جولة أوروبية عام 1985 كلا من فرنسا وسويسرا وألمانيا وبريطانيا والنمسا، حيث أشهَرَ ثلاثة من كبار الشخصيات الألمانية إسلامهم أمام فضيلته، وفى إيطاليا وضعَ حجر الأساس للمركز الإسلامى فى روما، وفى مؤتمر السُنّة النبوية بلوس أنجلوس ألقى بحثا عن مثالية الرسول.
ويزدحم المسجد الملحق بمبنى الأمم المتحدة فى يوم الجمعة 27 أكتوبر 83 حيث طالب فضيلة الإمام هيئة الأمم المتحدة بألا تكون شكلا فقط، بل تكون ذات موضوع يحقق ما أنشئت من أجله فلا تكتفى بالشجب والتوجع بل عليها أن يكون لديها القوة التى تدفع الظلم وتنصر بها المظلومين، وهى إن فعلت ذلك تحقق قوله تعالى «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله».
فى عهد مبارك كان الشيخ الشعراوى رئيساً للجنة الوساطة بين الحكومة والمتطرفين وكانت الجماعات في أوج عنفها فى القاهرة والصعيد، وحددت اللجنة موعدًا مع الوزير عبدالحليم موسى حضر الشعراوى منه ثلث ساعة فقط ليستمر بعده خمس ساعات، وفى تفسيره للانصراف السريع من أول جلسة قال «أنا قلت لهم الطرف اللى احنا شايفينه وعارفينه ومتأكدين منه هو الحكومة، أما الطرف الثانى فنحن لا نعرف هو يبقى مين، ولذلك تركتهم وانصرفت»، وكان للشيخ معارك ثقافية عديدة إحداها دارت سجالا بينه وبين ثلاثة من قمم الفكر: توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود، وكانت مع الحكيم بسبب المقالات التي كتبها وهو على مشارف التسعين عام 83 على مدى أربعة أسابيع على صفحات الأهرام تحت عنوان «حديث مع الله» ويتصدى له الشعراوى قائلا: «عجبت من رجل يعتبرونه شيخ الكُتّاب يُعلن بنفسه أنه لم يعد صالحاً لأن يكتب لا مسرحيات ولا روايات أى أنه لا يصلح لكتابة بشر لبشر، ثم يتسامى إلى أن يتكلم مع الإله أو يستقبل كلاما من الإله» وتتسع المعركة ويدخل إلى جانب الحكيم كل من إدريس ومحمود فطالب الشعراوى وقتها بعقد ندوة مفتوحة فى التليفزيون يحضرها الثلاثة وهو بمفرده، لكن الحكيم تراجع معترفاً بأن رجل الدين سيكسب من الجولة الأولى، وبعدها غيَّرَ عنوان مقالاته من «حديث مع الله» إلى «حديث إلى الله» ثم إلى «حديث مع نفسى»، ويؤكد إدريس أكثر من مرة أن الشعراوى أهم ظاهرة دينية إسلامية فى العصر الحديث منذ أيام الأئم الكبار أبوحنيفة والشافعى ومالك وابن تيمية وابن حنبل، وعندما يمرض إدريس يزوره الشيخ الشعراوى فى المستشفي داعيًا له بالعافية.. ويقول الشعراوى للدكتور مصطفى محمود من بعد تعرضه لقضية الشفاعة مما أدى إلى انزلاقه فى الموضوع إلى حد إنكاره الأحاديث النبوية الواردة بشأن الشفاعة: «يا مصطفى لا تضل الناس بهدايتك كما أضللتهم من قبل بضلالك»..
ولأن الشعراوى فيض عطاء.. ولأنه الغيث المنهمر.. ولأنه البحر الزاخر والمحيط الواسع نستقى من كلماته عبر سنوات عمره الثرية تلك الجرعات علّها تشفى الغليل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. ومنها قوله: «اختلفت فى طفولتى عن أقرانى فى نزوعى إلى العُزلة والتأمل، فكانت هناك شجرة جميز على ترعة بلدنا دقادوس يحلو لىّ الجلوس تحتها لتأمل فراشات الحقول ولون السماء ساعة الغروب، وعرفت يدى طريقها إلى طين الأرض أصنع منه أشكالا مما تقع عليه عينى. صنعت كمثال نورج ومحراثا وساقية وأشجارًا وغيرها من مفردات الطبيعة الريفية من حولى، ومع مرور الأيام بلغت تلك الأشكال الفنية مستوى هاماً من الإتقان مما جعل أساتذتى فى المعهد الدينى الذى كنت أتلقى فيه تعليمى الأولى يعرضونها كلما حضر أحد المفتشين كدليل لنبوغ أحد الطلبة، واستغرقتنى التجربة الفنية فى سنواتى الأولى حتى كادت تُلهينى عن مواصلة دراستى، لكن والدى أعطانى علقة ساخنة بفرع شجرة توت أعادتنى للانتظام فى الدراسة لتجنب النظرات التى كانت أقسى من الضرب بالعصا... ويفاجأ الشيخ بمن يسأله: أمك اسمها إيه؟ فيجيب: أمى اسمها حبيبة امرأة فلاحة بسيطة ربتنى وعلمتنى بحنانها أنا وإخوتى وكانت خير عون لأبى على مصاعب الحياة، وكانت صابرة قوية لم أرها إلا وهى تعمل أو تخفف عن واحد منا همومه، ولم آت على ذكرها وسط أى حديث عابر لأنها «الحبيبة» التى أدعو الله أن يرحمها ويجعل مثواها الجنة، ويوم تموت الأم ينادى منادى من قِبل الله: «يا ابن آدم ماتت التى كنا نُكرمك من أجلها فاعمل عملا صالحا نكرمك من أجله»، وأذكر أن أمى كانت قد رأت لىّ رؤيا ذات يوم أحمل إليها «قفة» مليئة بالمال، ويومها ضحكنا من الحلم، ومرت الأيام وذهبت لتهنئة الشيخ حمروش بتوليه مشيخة الأزهر، فقام بعدها ليعرض علىّ العمل فى كلية الشريعة التي أنشئت حديثا فى مكة المكرمة وذاك عام 1950، وكان سفرى نتيجة لمؤامرة من جانب الأزهريين لإبعادى عن تولى منصب في مكتب شيخ الأزهر، وسافرت تصحبنى أمى إلى مكة المكرمة وكان المرتب ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه المبعوث في مصر، وكانت السعودية وقتها تتعامل بالفضة والذهب، فذهبت لتسلم المرتب مضافاً إليه راتب ثلاثة أشهر أجرة السكن فوجدت المبلغ من الفضة موضوع في شيكارة وضعتها بدورى فى قُفة مع حمَّال حتى المنزل، ودخلت على أمى وأنا أحمل لها تفسير رؤياها التى سخرتُ منها يومها قائلا: قُفّة بحالها!!.... تزوجت من الثامنة عشرة من عمرى أثناء دراستى بالمعهد الابتدائى الأزهرى عام 1930 عندما كنا أنا وزميل لى نسكن فى بيت بالزقازيق صاحبته سيدة لديها ابنة ترغب فى مساعدتها فى الدراسة، وعندما زارنى والدى وشاهد هذا الوضع لم يعجبه الأمر وقرر على الفور زواجى، وكان المهر 30 جنيها، وسكنتُ فى المنزل مع والدى وأنجبت خمسة من الأبناء هم (سامى وعبدالرحيم وأحمد وصالحة وفاطمة و21 حفيدًا).... كانت لي تجربة فى البداية مع الإخوان ففي سنة 1937 التقيت بالشيخ حسن البنا، وفي نفس العام خرج حزب الوفد من الحكم وكنت وفديًا كطبيعة بلدى، وفى عام 1938 منعونا من الاحتفال بذكرى سعد زغلول فذهبنا إلى النادى السعدى واحتفلنا وألقيت قصيدة فى مدح سعد وخليفته مصطفى النحاس، وعندما بلغ البنا نص القصيدة زعل جدًا وعاتبنى فقلت له: يا شيخ حسن إذااستعرضنا زعماء البلد اليوم لنرى أقربهم إلى منهج الله فلن نجد إلا مصطفى النحاس، وحينئذ قال الشيخ حسن مقولته الشهيرة: «هو أعدى أعدائنا لأن له ركيزة فى الشعب، وهو الوحيد الذى يستطيع أن يضايقنا، أماالباقون فنقدر أن نبصق عليهم جميعا!! ومن هنا انفصلت عن الإخوان المسلمين وأصبح رأيى فيهم: كنتم شجرة ظليلة غفر الله لمن تعجل ثمرتها!!.... تكاتف الإنجليز مع حكومة صدقى للقضاء علي المعارضة فى الأوساط الأزهرية برجلهم الشيخ الظواهرى، وتحركت السلطة يومئذ فقبضت على زعماء الحركة وكنت أنا واحدًا منهم، وبقيت في سجن الزقازيق لمدة شهر حيث تم إيداعنا أنا وفهمى عبداللطيف كل في زنزانة انفرادية بتهمة العيب فى الذات الملكية وهى التهمة التي اعتادت الحكومة وقتها إلصاقها بأى وطنى لتغطية أسباب الاعتقال وهى تأليب الرأى العام ضد الملك وسلطات الاحتلال الإنجليزى.
بعض الشباب عندما يكونون جماعات يسمونها «الجهاد» ويقولون إن الجهاد هو «الفريضة الغائبة» فإنهم فى الواقع لا يفقهون أنه ليس فى واقع الإسلام فريضة غائبة لأن كل الإسلام قضايا مستحضرة فى ذات الإسلام، ثم ولماذا اختصصتم الجهاد بكونه فريضة غائبة ولم تقولوا عن حد الخمر أو حد الزنا أو الشريعة بوجه عام أنها فرائض غائبة؟! لماذا تسألون عن الجهاد وحده؟! إنها ليست إلا شهوة الحكم والسلطان!! وفى قضية التحرش يرجع الشيخ بعض أسبابها إلى مظهر الفتاة فيعالجها شعرًا بقوله فى عام 1949:
قصَّرتِ أكماما وشِلت ذيولا
هلا رحمت إهابك المصقولا
أسئمت من برد الشتاء سجونه
فطلبت تحرير المصيف عجولا
وخطرت تحت غلالة شفافة
في فتنة تدع الحليم جهولا
محبوكة لصقت بجسم مشرق
دفعته ثورته فبان فصولا
شاهدت خليلا يطارد غادة
فنهرته حِنقا فقال خجولا
أبغى البناء بها فقلت مداعبًا
هل كان باب وليها مقفولا
ورنا فلم يرها فجُن وقال لى
أبُعثت فينا يا غيور رسولا
قل للفتاة الغُر هذا حبه
إن بات ملتاعاً وذاب ميولا
يلقاك كالحمل الوديع مُضلِلا
فإذا تمكن منكِ أمسي غولا
لا أنسى يوم ما أعرب جمال سالم عن رغبته لزيارة الأزهر، وأراد أن يعقد اجتماعا لمجمع بحوث العلماء ليتخذوا قرار تحديد النسل، فقال لى شيخ الأزهر وقتها: أنا مريض من الآن ولن أحضر، وكان يمقت جدا كلمتى شيوعية واشتراكية، وقال لى: أنت مقرر المجمع واعرف شغلك، وجاء يوم الثلاثاء المحدد لموعدالزيارة، وانتظر جمال سالم طويلا داخل قاعة اجتماع مجمع بحوث العلماء، وكل نصف ساعة يحضر عالم واحد، فغضب جمال سالم وكان سليط اللسان فقال: إيه العلماء دول؟! فقلت له يا سيادة عضو مجلس الثورة أنت جئت في سيارة خاصة وأمامك موتوسيكلات مصفحة ودول غلابة وجايين متشعبطين فى المواصلات، وعلى كل حال انتظر بعض الوقت فالساعة لم تزل العاشرة والنصف صباحاً، وأنا على أى حال أحمد الله. فقال جمال سالم: العلماء طبعاً لابد وأن يحمدوا الله. فقلت له: إننى أحمده لأمر مختلف، فسألنى: على ماذا؟ فقلت له: لأن أعضاء مجمع بحوث العلماء لم يجتمعوا من قبل ليقرروا تحديد النسل قبل أن تحمل أم جمال عبدالناصر فيه، وإلا كانت الدنيا تخسر خسارة كبيرة جدا! فسكت جمال سالم فترة ثم قال: لما ييجوا العلماء ابقوا اعملوا قرارا واحضروا به إلينا ولم يحضر بقية العلماء، ولم يُعقد الاجتماع!!.... عرفت بالمصادفة في عام 1954 وكنت أستاذا بكلية الشريعة في مكة المكرمة بأمر نقل مقام سيدنا إبراهيم الخليل إلى الوراء فى منطقة الحصوة، حيث أقيم البناء الجديد بالفعل والفكرة تعود إلى توسيع المطاف الذى أصبح يضيق بالطائفين، وكان وقتها موجودًا داخل مبنى كبير، واستندوا فى ذلك إلى مشورة بعض العلماء الذين قالوا إن النبى صلى الله عليه وسلم قد نقل المقام من قبل وكان ملصقا بالكعبة، وهكذا بنوا المقام الجديد في الموقع الجديد ولم يبق إلا أربعة أيام ويأتى الملك سعود وينقل حجر المقام إلى المكان الجديد، ولما كنت أرى في ذلك النقل شيئا مخالفا للشريعة، والسكوت على ذلك غير مقبول فاتصلت بزملاء البعثة قائلا يجب أن نقول ونعلن كلمتنا؟ فقالوا إن الموضوع قد أصبح منتهياً، فقررت أن أعملها وحدى! فأرسلت برقية من خمس صفحات إلى الملك سعود عرضت فيها المسألة من الناحية الفقهية والتاريخية مؤكدا أن نقل المقام مخالف للشريعة وأن الذين يحتجون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بنقل المقام من قبل فهؤلاء قد جانبهم الصواب لأن الرسول رسول ومشرع، وقلت إن عمر بن الخطاب لم يفعلها وأنه عندما وقع سيل «أم نهشل» وجرف حجر المقام من مكانه وذهب به بعيدا وعرف ابن الخطاب بالأمر جاء فزعاً من المدينة وجمع الصحابة يناشدهم: أيكم يعرف هذاالمقام فى عهد رسول الله؟ فقام رجل وقال: أنا يا عُمر، ولقد أعددت للأمر عدته وتحسبت من وقوعه، ولذلك قست المسافة التي تحدد موضع المقام بالنسبة لما حوله واستخدمت «القماط» أى الحبل فى ذلك وهذا الحبل موجود وبه عقدة تحدد الوضع بالضبط، لكن عُمر بحصافته لم يأخذ الكلام على علاته، بل أجلس الرجل إلى جانبه وأرسل من يأتى بالحبل من بيته ليتأكد من صدق روايته، وجاءوا بالحبل وتأكدت الرواية، وقام ابن الخطاب بوضع الحجر فى موضعه الذى كان عليه في عهد الرسول، ومن هنا لا يجوز أن ينقل المقام، ووصلت البرقية الملك سعود الذى قدم البرقية لجمع العلماء طالب الانتهاء إلي رأى خلال 24 ساعة أى قبل الموعد المحدد لنقل المقام ب24 ساعة، واتفق العلماء على كلمة الحق وأيدوا برقبتى فأصدر الملك أمرًا بعدم نقل المقام، وكان في برقيتى اقتراح بإزالة المبنى الكبير من حول المقام حتى لا يشغل إلا مساحة صغيرة لا تزيد على المساحة التى يشغلها اثنان من الطائفين، واقترحت قبة زجاجية غير قابلة للكسر، فإظهار المقام هو تحقيق للآية الكريمة التي تقول عن بيت الله الحرام «فيه آيات بينّات مقام إبراهيم» وليس من القبول أوالمعقول أن نعمل بعكس الآية ونُخفي المقام فى مبنى يحجبه عن العيون.. والحمد لله أن وفقنى الله إلى الإبقاء على مقام الخليل في موضعه ليبدو ظاهرًا للأعين من خلال القبة الزجاجية، وبعد يومين اثنين شرفنى الله وشُرفتْ عينى برؤية سيدنا إبراهيم الخليل..... التراويح سُنّة وليست فرضاً ولو كانت لحوسب الناس على تركها، وسميت بالتراويح لأن من يؤديها يصلي ركعتين ثم يستريح قليلا، ثم يصلى ركعتين ويرتاح بعدها، واسمها صلاة قيام الليل والأصل فيها أن تُصلى فى أى مكان بالبيت أو بالمسجد، ويصلى البعض التراويح ثمانى ركعات والبعض عشرين ركعة، ومن جعلها ثمانية لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد إلا ثمانى ركعات، وقيل إنه أكملها فى البيت خشية أن يُظن الناس أنها حق واجب..... كنت أحب عبدالوهاب وأغانيه وألحانه وحديثه، وعندما نجلس معاً أقول له يكفيك أن تتحدث والناس يسمعونك، ويكفيك أن تقول الآلووه فقط..... نصيحتى بما نصحنى به أبى عندما قال لى «يا ولد اتشعلق فى ربنا أى تمسَكَ به وضع قدميك فى أى مكان زى ما انت عايز.... فى المرض أنت تكون في معيّة الله سبحانه وتعالى، بينما فى الصحة أنت تكون مع نعمة الله سبحانه، وأن تكون في معية الله مباشرة أفضل لك من أن تكون مع واسطة وهى النعمة..... عندما تجد الدنيا زحاماً أمامك فقل: يا قابض يا باسط يا رافع يا خافض يا واسع يا عليم، فستجد كل الطرق مفتوحة أماك بإذن الله تعالى..
و..أظل أردد ما حييت مُناجاة الشعراوى: «سبحانك يا من وسعت رحمتك كل شىء.. فأنا شىء فتداركنى برحمتك»..
[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.