على مقربة من التسعين وبعد خلافة دامت اثنى عشر عاما نصفها لا ينقمَ فيه الناس عليه، بل كان أحب إلى قُريش من سابقه عمر بن الخطاب شديد البأس والعقاب، ولكن بذور المؤامرة ومكيدة الخوارج بدأت فى السنوات الست الأخرى لتبلغ ذروتها ليلة السبت لثمان عشرة خلت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين هجرية بمقتل ذى النورين عثمان بن عفان الذي قال له رسول الله عليه وسلم فى حديث روته عائشة رضى الله عنها: «يا عثمان إنه لعل الله يقمِّصك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقانى» ويظل عثمان إلى النهاية متمسكاً بوصية النبى وجيرته رغم الخطر المحدق به، حتى أن معاوية بن أبى سفيان قبل توجهه إلى الشام أتى إليه يقول: «يا أمير المؤمنين انطلق معى إلى الشام قبل أن يهجم عليك من الأمور ما لا قِبل لك بها».. فرد عليه عثمان: «أنا لا أبيع جوار رسول الله بشيء ولو كان فيه قطع عنقى»، فعرض معاوية أن يبعث له بجيش من أهل الشام يقيم فى المدينة لمواجهة الأخطار المتوقعة للدفاع عنه وعن أهل المدينة، فقوبل برفض عثمان القائل: «لا والله حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله الأرزاق بجند تُساكنهم، ولا أضيِّق علي أهل الهجرة والنصرة»، فقال له معاوية محذرًا: «والله لتغتالن أو لتغزين يا أمير المؤمنين»، فجاء رد عثمان بأن قدَّر الله وما شاء فعل».. وكان أن رفض دعوة الصحابة بقتل الخوارج وحجته: «لأنهم مسلمون من رعيته، ولا يرضي أن يُقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له.. إننا لا نقتلهم، بل نعفو أو نصفح ونبصّرهم بجهدنا ولا نقتل أحدًا من المسلمين إلا إذا ارتكب حدًا يُوجب القتل أو أظهر رِدَّة وكفرًا».. وينادى عثمان: «الصلاة جامعة ليقف إماماً فقيهاً متفردًا في أحكام الدين وأحفظهم للقرآن والسُنَّة، وراويًا عن النبي عليه السلام قرابة مائة وخمسين حديثًا، ومدونًا للوحى، وحديثه لا لغو ولا ثرثرة وإنما أحاديث يتوق إليها ويتمناها النبى عليه السلام، وتروى عائشة أنها سمعت النبى ذات ليلة يقول: لو كان معنا من يحدثنا؟ قالت: يا رسول الله فأبعث إلى أبى بكر؟ فسكت. ثم قالت: أفأبعث إلى عُمر؟ فسكت. ثم دعا غلاماً بين يديه فأسّر إليه فذهب فإذا عثمان يستأذن، فأذن له فدخل فناجاه عليه السلام طويلا». من بعد الصلاة يدعو عثمان معارضيه فى المسجد إلي جلسة مصارحة ومكاشفة وكشف حساب ووضع النقاط على الحروف علي مرأى من الصحابة والمسلمين، فاستعرضوا أخطاء عثمان على حد قولهم فقام رضي الله عنه بالرد علي كل اتهام ليكون الصحابة شهودًا علي كل ما قيل من الجانبين حيث يتبدى أسلوب عثمان الأشبه بما نسميه الأسلوب الرسمى بغير تنميق ولا محاولة تأثير، وهو أسلوب الخليفة والخلافة التي تعلم أن التفاهم بينها وبين من تخاطبهم مفروغ منه متفق عليه مستغن عن الاستطراد بما قل ودل، والدخول رأسًا إلى الموضوع.. قال: قلتم: إنى أتممت الصلاة في السفر، وما كان قد أتمها من قبلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا أبوبكر ولا عُمر، فقد صلّوا فيه قصرًا، ولكنى أتممتها لمّا سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيه أهلى، فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرًا؟ أليس كذلك؟ فرد عليه الصحابة: اللهم نعم.. وقلتم: إنى قد جعلت أرضاً واسعة خاصة لرعى إبلى «أرض الحمى»، ولقد كانت الحمى قبلى لإبل الصدقة والجهاد، وقد زدت فيها لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعى فى ذلك الحمى، وما حميت لماشيتى ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنمًا، وقد أنفقتها كلها، ولا ناقة ولا جمل لى الآن، ولم يبق لى إلا بعيران، خصصتها لحجى! أليس كذلك؟ فشهد الصحابة: اللهم نعم.. وقلتم: إنى أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما عداها، وجمعت الناس على مصحف واحد! ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن أجمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا بفعلى هذا تابع لأبى بكر عندما جَمَعَ القرآن! أليس كذلك؟ فقالت الصحابة: اللهم نعم... وكان أبوبكر قد جَمَعَ الآيات دون نسخ ما جمعوه وإرسال النسخ إلى الأمصار، لكن بعد تفرق المسلمين بانتشار الإسلام كان الصبية يرجعون إلى آبائهم فيسمعون منهم غير ما سمعوه من معلميهم، وعاد حذيفة بن اليمان من قتال أرمينية فلم يدخل بيته حتى جاء عثمان قائلا: «أدرِكْ الناس يا أمير المؤمين قبل أن يختلفوا في الكتاب» فلم يتوان عثمان وأرسل في ساعته إلى السيدة حفصة يطلب النسخة التى أودعها أبوها عندها قبيل وفاته وقبل أن يُنتخب الخليفة بعده، وأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها، ثم قارنها بما يحفظ وهو الحافظ للقرآن كله، وعلي سائر الصحابة الحافظين فخلصت له النسخة المتفق علي قراءتها وترتيب آياتها، فلم يحجم بعدها عن حرق ومحو كل ما عداها، وأخذ (العُسب واللَخافِ والجلود) التي لم تختلف ولم تجتمع على ترتيب فدفنها بين القبر والمنبر الروضة الشريفة وأرسل من المصحف كما جمعه نسخاً إلى الأمصار يعتمدونها ولا يقرأون في سواها، ويعد مصحف عثمان «العمل العثمانى» الأعظم فى تاريخ الإسلام. وفي ردود عثمان على اتهامهم قوله: وقلتم إنى وليتُ الشباب من صغار السن! ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر سنًا، ولقد ولى رسول الله صلي الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وهو أصغر ممن وليته، وقال للنبى أشد مما قالوا لى أليس كذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم!.. وقلتم: إنى أعطيت عبدالله بن سعد بن أبى سرح ما أفاء الله به، وأنا لم أعطه إلا خُمس الخمس، وكان مائة ألف عندما فتح افريقيا جزاء جهاده وقد قلت له: إن فتح الله عليك افريقيا، فلك خُمس الخمس من الغنيمة، وقد فعلها من قبلي أبوبكر وعُمر رضى الله عنهما، ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خُمس الخمس، ورغم أنه لا يحق لهم الاعتراض، فقد أخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئاً! أليس كذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم!… وقلتم: إنى أحب أهل بيتى وأعطيهم! فرغم حبى لأهل بيتى فإننى لم أنجرف معهم إلى ظُلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فذلك من مالى الخاص وليس من أموال المسلمين التي لا أستحلها لنفسى ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطى العطايا الكبيرة من صلب مالى في زمن الرسول وأبى بكر وعُمر، وأنا وقتها شاب شحيح حريص، فهل عندما يفنى عمرى وتشيخ أسنانى فجعلت مالى الذى لى لأهلى وأقاربى يقول عنى الملحدون ما قالوا! وإنى والله ما أخذت من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت علي تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فلساً فما فوقه، وإننى لا آكل إلا من مالي، ولا أعطى أهلى إلا من مالى… وقلتم: إنى رددت الحَكَم بن أبى العاص إلى المدينة وكان رسول الله قد نفاه إلى الطائف! والحَكَم بن أبى العاص مكى، وليس مدنياً، وقد سيَّرهُ رسول الله من مكة إلى الطائف، وأعاده إلي مكة بعدما رضي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو من سيّره إلى الطائف، وهو الذى ردّه وأعاده!! أليس كذلك؟ فأجابته الصحابة: اللهم نعم… وقلتم إنى وليت الوليد بن عقبة لقرابته لى ثم اتُّهم بشرب الخمر وثبتت عليه التهمة، فما وليته لأنه كان مولى عُمر، وأما أنه شرب الخمر فقد أقمت عليه الحد وعزلته، ولا يطلب من الإمام أكثر من ذلك! أليس كذلك؟ فأجابته الصحابة: اللهم نعم... وقلتم إننى أبعدت أناساً من الصحابة عن مساكنهم أو عن أعمالهم ولم تذكروا أنهم أغلظوا لى فى القول ولم يوقروننى، وقد ضرب عُمر بن الخطاب سعد بن أبى وقاص لأنه لم يقف له في مجلس الخلافة وقال له: «إنك أردت أن تقول إنك لا تهاب الخلافة، فالخلافة تقول إنها لا تهابك!».. ولم ولن يعرف عن أحد أننى مكثت أعتذر لابن مسعود كل يوم عن إبعاده عن مسكنه وهو غاية ما أستطيع.. وإذا ما كان عثمان في خطابه قد أجمل فأفحم، وأوجز فأنجز، واختصر فأوضح في رده على مفتريات الهجوم المرّ العنيف وما كان يشيعه المغرضون عنه فيتأثر المسلمون بكلامه وبيانه وحججه وتوضيحه مصدقين قوله بينما دعاة الفرقة والفتنة لم يتراجعوا في غيِّهم أو ادعاءاتهم لسبب بسيط أنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، وإنما كان هدفهم الفتنة وحدها التى كان عثمان رضى الله عنه يدرك حتمية قدومها، لكنه آثر تأخيرها، مُوقناً من أن مميزات أولياته لن تضيف شيئا لقيم حميدة كثيرة أنكرها السفهاء، وأبدًا لن توقف زحف المؤامرة تجاه بوصلة يشغلها أمير المؤمنين، وقد كان من أولياته تلك أنه الأول والأخير الذى تزوّج ابنتين للرسول أم كلثوم ورقية ولذا سُمىَّ «ذو النورين» وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي ثالثة لزوجته، وما زوجتُهُ إلا بوحى من الله» وهو أول من عطر المسجد، وأول من جعل للمؤذنين راتبًا، وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوَّضَ إلى الناس إخراج زكاتهم، وأول من اتخذ صاحب شرطة، وأول من خَفَض صوته بالتكبير، وأول من اتخذ المقصورة فى المسجد تخوفاً من أن يصيب الإمام ما أصاب عُمر، وأول من هَاجرَ إلى الله بأهله مرتين إحداهما إلى الحبشة والأخرى للمدينة، وأول من جَمَعَ الناس على حرف واحد فى القراءة، وأول من دُفن من الخلفاء بالبقيع، وأول من جعل بيته بيتاً لمال المسلمين قبل أن يكون للدولة الإسلامية بيت مال، وأول من قال إن ليس لسكران ولا مجنون طلاق، وأول من قال بأن طلاق المريض مرض الموت لا يزيل الزوجية كسبب موجب للإرث سواء مات في شهور العدة أو بعدها.. وإذا ما كان عدد الولاة في عهده ستة وعشرون والياً فلم يكن من بينهم إلا خمسة من أقاربه قد أثبتوا المقدرة فى إدارة ولاياتهم وفتح الله علي أيديهم الكثير من البلدان أولهم «معاوية بن أبى سفيان» الذى دعا له الرسول بقوله «اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب وقهِ العذاب»، وثانيهم «عبدالله بن عامر بن كريز» الذى قضى في فتوحاته علي آخر ملوك الفرس يزدجرد بن شهريار بن كسرى، والثالث الوليد بن عقبة أخو عثمان لأمه المجاهد العادل المظلوم الذى اعتزل الناس بعد مقتل عثمان فى ضيعة بعيدة عن الصخب، والرابع سعيد بن العاص الذى ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن فأقيمت عربية القرآن على لسانه لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلي الله عليه وسلم، والخامس عبدالله بن أبى السرح أخو عثمان في الرضاعة الذى غزا افريقيا وبلاد النوبة وانتصر في غزوة ذات الصوارى، ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان خرج إلى الرملة بفلسطين، فلما طلع عليه النهار قال: اللهم اجعل آخر عملى الصبح، فتوضأ ثم صلى، فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه… وهكذا كانت مسيرة الولاة الخمس الذين عينهم عثمان من أقاربه وإن لم يكونوا خمسة في وقت واحد! بين الصبا والشباب كان عثمان عندما مات والده عفَّان الذى كان يعمل فى حياكة الثياب ليتحول بعدها إلى التجارة، وأم عثمان هى أروى بنت ربيعة وأمها أروى البيضاء بنت عبدالمطلب عمة النبي عليه السلام وكانت أختها سعدة بنت كريز التي انقطعت للكهانة قد تنبأت بإسلام عثمان.... وبموت الأب وزواج الأم بعقبة بن معيذ شكا الزوج عثمان إلى أمه فقال لها إن ابنك صار ينصر محمدًا، فلم تنكر ذلك وإنما جاء قولها: «ومن أولى به منا؟.. أموالنا وأنفسنا دون محمد».. ونقرأ وصف عثمان على ألسنة معاصريه فنراهم مجمعين على صفتين هما: الجمال والحياء.. كان ربعة لا بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشرة، مشرف الأنف، بوجهه آثار من الجدرى، أسمر اللون، مشعر الجسد، له جُمَّة أسفل أذنيه، وبه صلع مع طول في لحيته وغزارة في عارضيه، وكان خفيف الجسم، ولكن ليس بالضعيف ولا المعروق بل كان عريض المنكبين طويل الذراعين عذب الروح حلو الشمائل، ومن ذاك أن نساء قريش كن يُرقِّصن أطفالهن فيقلن: أحبك والرحمن حب قريشٍ عثمان وكان يوتِّد أسنانه بالذهب، ويخضب لحيته، وعن عائشة رضى الله عنها قولها: لما زوَّجَ النبى صلى الله عليه وسلم ابنته أم كلثوم لعثمان قال لها: «إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم، وأبيك محمد»، ويقول عثمان كما جاء فى الطبرى: «كنت رجلا مستهترا بالنساء، وإنى ذات ليلة بفناء الكعبة في رهط من قريش إذ قيل لنا، إن محمدًا قد أنكح عتبة بن أبى لهب ابنته رقية، وكانت رقية ذات جمال رائع، فدخلتنى الحسرة لمَ لا أكون قد سبقته إلى ذلك، وكان لى مجلس عند أبى بكر فرآنى مفكرًا فسألنى عن أمرى وكان رجلا متأنياً فأخبرته بما تكهنته لى خالتي من إسلامى وزواجى فقال «ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، وما كان أسرع من أن أقبل علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعه علي بن أبى طالب فلما رآه أبوبكر قام فسّر فى أذنه بشيء فإذا برسول الله يقبل علىّ قائلا: «يا عثمان!.. أجب الله إلى جنته فإنى رسول الله إليك وإلى خلقه» فما تمالكت نفسى فأسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله» وفور البعثة النبوية قال أبولهب لابنه عُتبة «رأسى من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، ففارقها ولم يكن قد دخل بها فتزوجتها».. ومنذ اليوم الذى أسلم فيه عثمان لَزِّمَ النبى حيث كان ولم يفارقه إلا للهجرة. وليستخلفه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، وليرسله إلى اليمن مستطلعاً حين كانت إمارتها إلى علىّ، وكاد أن ينفرد بأمانة السر، وكان موضع سر النبى في مرضه عليه السلام، وعن السيدة حفصة أنها حادثت السيدة عائشة تذكِّرها في هذا الشأن: «لقد كنت أنا وأنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمى عليه فقلتُ لك: أترينه قد قُبض؟ فقلتِ: لا أدرى، ثم أفاق، فقال: افتحوا له الباب، فقلت لك: أبوك أو أبى؟ فقلت: لا أدرى، وفتحنا الباب فإذا عثمان، فلما رآه نبى الله قال: ادنه، فأكب عليه فأسرَّ له بشيء لا أدرى أنا وأنت ما هو ثم رفع رأسه فقال له: أفهمت ما قلت لك؟ قال عثمان: نعم. قال: ادنه.. فأكبّ عليه أخرى مثلها فأسرَّ له بشىء ما ندرى ما هو، ثم رفع رأسه فقال: أفهمت ما قلت لك؟ قال: نعم لقد سمعته أذناى ووعاه قلبى.. ثم أمره فانصرف.. تزوَّجَ عثمان على التعاقب تسعاً من النساء ولدن له تسعة من الذكور، وسبعة من الإناث، ولم يولد له من بنتى رسول الله رقية وأم كلثوم غير عبدالله ابنه من «رُقية» الذى مات وهو في السادسة، وسائر أبنائه من زوجاته الأخريات لم يؤثر عنهم شيء فى التاريخ، وكانت ابنته من زوجته الأخيرة «نائلة» التي عاصرت مقتله اسمها «مريم» الاسم المحبب لعثمان وكان قد سمى به ابنته من زوجته أم عمرو بنت جندب، ولقد كان لزواجه من نائلة بنت الفرافصة اتجاهاً جديدًا في المصاهرة من بعد زواج الصحابة من غير المسلمات خارج الحجاز لتتزاوج العادات والحضارات، وكان قد سمع بزواج سعيد بن العاص والي الكوفة من أختها هند، وتناقل ذوو القربى الأحاديث عن جمالها وحسن إدارتها لأمور بيتها فكتب إلى سعيد يخطب أختها وهو لا يعرفها، وكانت أديبة ذكية تنظم الشّعر وتُحسن القول، ولها فى زواجها من عثمان أبيات تُغنى، غادرت قومها فى بادية الشام على كره منها إلى مسكن الغربة، فسألها عثمان حين رآها: «لعلك تنفرين مما ترينه من شيبتى؟»، قالت: «والله يا أمير المؤمنين إنى من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهول»، فقال عثمان: «بالنسبة لىّ قد جاوزت الكهول، وصرت شيخاً، لكنك لن تجدى لدينا إلا خيرًا».. وقد تأثرت نائلة بإيمان عثمان وتقواه وكرم نفسه فنسيت نفورها واختلاف عقيدتها وبيئتها فأسلمت على سُنّة الله ورسوله، وكان لعثمان من الثقة بنصحها ما لم يكن له في مروان ابن الحَكم أقرب المقربين.. وكانا يتجادلان في حضرته، حيث عيّرها مروان مرة بأبيها «الذى لا يُحسن الوضوء» فقالت له تعرض بأبيه وهو عم عثمان «أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمّه لأخبرتك عنه ما لم أكن أكذب عليه».. وغضب عُثمان فتوعد مروان لئن تعرض لها ليسوِّدن وجهه، ثم قال له: «والله لهى أنصح لى منك».. نَظَرَ عثمان إلى القوم الذين حاصروا داره من كوة في الجدار ليقول لهم: أيها الناس لا تقتلونى فإنى والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلونى لا تصلوا جميعاً أبدًا، ولا تغزو جميعاً أبدًا، ولا يقسم فيئكم بينكم»، وقد تحقق ما حذرهم منه فبعد مقتله وقع كل ما قاله رضي الله عنه عبر التاريخ، وفي ذلك يقول الحسن البصرى: «فوالله إن صلى القوم جميعاً إن قلوبهم مختلفة».. ويرسل عثمان إلى الصحابة يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم له بالقتل فكان من أقوال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: «إن معى خمسمائة مقاتل، فأذنْ لى فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يُستحل به دمك. فقال: جزيت خيرًا، ما أحب أن يراق دم بسببى، ومثل ما عرض علىٌ من رغبة في الدفاع كان جميع الصحابة، وعندما جاء الحسن بن علي قائلا: اخترط سيفى؟ قال عثمان: لا، أبرأ الله إذًا من دمك، ولكن ثمَّ أعد سيفك وارجع إلى أبيك».. وهكذا قام عثمان بمنع الصحابة من القتال، وعندما منعَ المحاصرون عن عثمان وآله الماء كان أولهم إنجادًا له علىَّ وأم حبيبة التي ألقوها ببغلتها بعيدًا، وقامت صفية بوضع خشبة من منزلها لمنزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء، وحاولت السيدة عائشة إقناع شقيقها محمد بن أبى بكر بالذهاب معها إلى الحج لتخليص عثمان من أيدى المفتونين الذى كان الشقيق معهم لكنه أبى، فقالت: والله لو استطعت أن أمنعهم من تنفيذ ما يخططون لأفعلن، وكان خروجها مع عدد من الصحابة وأمهات المؤمنين للحج نوعاَ من تفويق الجموع حيث يرجع الناس إلي أمهات المؤمنين لسماع رأيهن وفتاواهن، وكنَّ لا يتصورن أن يصل الأمر بهؤلاء الناس إلى قتل الخليفة رضى الله عنه.. وفي يوم المذبحة الموافق الأربعاء لثمان خلت من ذى الحجة نام عثمان رضي الله عنه وقام من نومه صائماً يقول: «ليقتلنى القوم فإنى رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام ومعه أبوبكر وعمر، فقال لي رسول الله: يا عثمان افطر عندنا» وقُتل من يومه عندما نشر المصحف بين يديه ليدخل عليه أحدهم فيقول له عثمان: بينى وبينك كّتابُ الله فيتركه الرجل، فقام محمد بن أبى بكر بأخذ لحيته فقال له عثمان: «والله لو رآك أبوك لساءه مكانك منى فتراخت يده، ليدخل رجل من بنى سدوس يقال له الموت الأسود فخنقه قبل أن يضربه بالسيف الذى اتقاه عثمان بيده فقطعها القاتل لتنضح الدم على المصحف فوق قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)»، وتدافع «نائلة» عن زوجها تتقى السيف بيدها فيهوى سودان بن حمران بالسيف عليها ليقطع أصابعها فولّت ليغمز أوراكها.. ومن شدّة إخلاصها لصاحب الذكرى العطرة صممت ألا تكون زوجة لأحد من بعده كائناً من كان قدره ونسبه، وتكاثر خطابها فأرادت أن تصرفهم عنها وتصرف نفسها عنهم، فعمدت إلى حجر صوان هتَّمت به أسنانها داخل فمها، وردت معاوية بن أبى سفيان حين خطبها قائلة لرسوله: «ماذا يرجو معاوية من امرأة هتماء»!! وعن أنس: «إن لله سيفاً مغمودًا فى غمده مادام عثمان حياً، فإذا قُتل عثمان جُرِّد ذلك السيف فلم يُغمد إلى يوم القيامة».. لمزيد من مقالات سناء البيسى