هذه هي الديمقراطية, ولعلنا نتذكر أن فرانسوا اولاند لم يفز برئاسة فرنسا سوي بفارق 4% زيادة علي ما حصل عليه نيكولا ساركوزي.. وارتضي الجميع بنتائج الصندوق ولم يهدد أنصار الخاسر بالنزول الي الشارع ولم يعتبروا فوز خصمهم ردة الي النظام القديم جمهورية الاشتراكيين وانما بدأ الجميع عهدا جديدا يتحمل فيه الرئيس الجديد مسئولية الدولة والشعب لا يفرق بين من كان من المؤيدين أو من الخصوم. بالطبع هناك فارق كبير بين الشعبين المصري والفرنسي من حيث التشبع بثقافة الديمقراطية وممارستها علي الأرض.. المصريون للتو خارجين من تجربة الثورة وزخمها, وجانب كبير منهم يعتبر أن من ليس معهم فهو عدو وليس مجرد خصم سياسي.. ومن ثم هناك مخاوف كبيرة من أن تنتقل حالة الغضب من دهاليز السياسة الي فوضي الشارع. الآن نحن أمام خيارين.. الأول خيار التيار الاسلامي, وجميع المؤشرات تؤكد أن نسبة غالبة من أنصاره سوف يتوحدون وراء الدكتور محمد مرسي متناسين اختلافاتهم السياسية والمرجعية.. والخيار الثاني هو التيار المدني الليبرالي الذي تبعثر الي مئات من الحركات والائتلافات الثورية ومعها عدد من الأحزاب القديمة التي فشلت في أن تقنع المصريين سواء قبل الثورة أو بعدها بجدوي وجودها علي الأرض, كما فشلت في افراز احد كوادرها للمنافسة علي منصب الرئيس فاستعانت بمرشحين من الخارج كان سقوطهم مدويا ومنذرا بأن علي هذه الأحزاب أن تعيد رسم خطوطها أو تغلق أبوابها وترحل. مشكلة التيار الليبرالي أن من يمثله هو الفريق أحمد شفيق الصديق المقرب من الرئيس المخلوع حسني مبارك وآخر رؤساء الوزارة في عهده, وقد اختاره مبارك علي أمل أن يتمكن من رأب الصدع ويبدي تجاوبا مع مطالب الثوار ويهدئ من روعهم.. ولكن كان السيف قد سبق العزل ولم يعد من الممكن أن يتقبل الثوار أي حلول وسطية. هل نتذكر يوم أن قرر اللواء عمر سليمان النزول الي الساحة وخوض الانتخابات الرئاسية؟.. يومها التف جانب واسع من الشعب حول هذا الترشح ليس حبا لعيون النظام القديم المخلوع ولا كرها في الثورة.. ولكن يأسا من أن يتمكن الثوار في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الوطن تلك الشخصية القوية القادرة علي لملمة الشمل وطي صفحة الماضي والسير بقوة الي الأمام في وقت أصبح الركود فيه خطرا داهما يهدد معيشة المواطن الفرد وأمنه ومستقبل اولاده, وبات الأمن القومي ذاته علي حافة الانهيار. لم يكن اذن ذلك التأييد الشعبي الذي حظي به اللواء عمر سليمان نوعا من الحنين الي الماضي, ولكن كان من وجهة نظر البعض بمثابة الدواء المر الذي علينا أن نتجرعه للخروج من هذه الكارثة التي تحيط بالوطن أرضا وشعبا وأمنا ومصيرا.. وبينما نجح البعض في الاطاحة بعمر سليمان من قائمة المرشحين, ظل علي القائمة كل من عمرو موسي وأحمد شفيق الذي عاد بسرعة الي السباق وربما ظن البعض أنه هو البديل الجاهز لهذه القطاعات التي سبق أن استبشرت بترشح عمر سليمان للخروج بالوطن من هذه الكبوة, ومن ثم فقد حصل علي المركز الثاني في ترتيب اختيارات الشعب وبفارق لا يصل الي ال1% عن منافسه محمد مرسي وبمجموع أصوات تزيد عن الخمسة ملايين صوت. وبغض النظر عما يمثله الفريق أحمد شفيق في عيون القوي الثورية والاسلامية فقد اتحد الجانبان علي اعتباره من الفلول وبغض النظر ايضا عما اذا كان شفيق محسوبا علي الفئة الباغية التي كانت تحكم مصر وأفسدت سياساتها الداخلية والخارجية.. هل يصح طبقا للمنطق والقواعد الديمقراطية أن نقصي من الحياة علي الأرض المصرية أكثر من خمسة ملايين مواطن اعطوا أصواتهم طواعية لهذا الرجل؟!. لا أظن أن من بين أهداف الثورة علي الاطلاق هذا الاقصاء لقطاع عريض من المواطنين لمجرد أنهم أختاروا التعبير عن ارادتهم من خلال الصندوق وليس من خلال الأعمال الفوضوية والتهديد بحروب أهلية.. ولا أظن أن بداية هكذا للجمهورية الثالثة جمهورية ثورة يناير يمكن أن تنبئ بمستقبل زاهر لعصر جديد من الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية اذا كان التعامل مع خمسة ملايين صوتا سيكون علي أساس الاقصاء التام وعدم الاعتراف واعتبارهم جميعا من الفلول. ليس المقام هنا مقاما للدفاع عن الفريق أحمد شفيق وأنصاره.. ولكني بصدد الدفاع عن فكرة الديمقراطية التي قامت من أجلها الثورة المصرية.. وللمفارقة المذهلة فقد رحب الاخوان المسلمين بنتيجة الجولة الأولي وبدأوا علي الفور في لم شمل شتات التيارات الاسلامية علي شدة اختلافاتها وتبايناتها الفكرية والسياسية استعدادا لجولة الحسم الثانية في السادس عشر من يونيو.. وعلي الجانب الآخر الليبرالي نجد أن المراهقة السياسية هي سيد الموقف, وأن سياسات التخوين والاقصاء وعدم الاعتراف بنتائج الصندوق هي المسيطرة علي الأجواء مما ينذر بعواقب وخيمة تتراوح بين انزواء هذا التيار تماما عن الساحة السياسية وبين فوضي عارمة قد تحل بمصير الوطن وتفضي الي نقطة الخطر التي تكاد تلوح للجميع بانذاراتها وعلاماتها في العودة بالنظام السياسي الي ما قبل 60 عاما مضت. وبدلا من أن يصب قادة الحركات والائتلافات الثورية جام غضبهم علي محمد مرسي وأحمد شفيق, عليهم أن يواجهوا الحقيقة بسؤال واحد: ماذا أوصلهم الي هذا الطريق المسدود؟.. ولماذا لم يتمكنوا طوال الفترة الماضية من التوحد وراء تنظيم سياسي واحد يترجم أهداف ومبادئ الثورة؟.. ولماذا تفرقوا وتطاحنوا شيعا وأحزابا لا تسمن ولا تغني عن جوع؟.. ولماذا تخلي عنهم الدكتور محمد البرادعي وانسحب من الساحة مكتفيا بتغريداته علي تويتر؟!!. أمام الثوار فرصة تاريخية ليحددوا ماذا يريدون بالضبط؟.. هل يريدون للديمقراطية أن تأخذ مجراها الطبيعي, أم يريدون للفوضي أن تحرق الأخضر واليابس؟. الخيار الآن هو ما بين المشروع الاسلامي ذي المرجعية المدنية أو بين المشروع الليبرالي ذي المرجعية الاسلامية حيث يصر أنصار التيار المدني الليبرالي علي أن مشروعهم قائم علي فكرة أن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع مع الاحتفاظ بحق المواطنة للجميع وأن يمارس الأقباط حقوقهم في الأحوال الشخصية طبقا لمعتقدهم الديني.. اذن نحن أمام ايام فاصلة وحاسمة في المشهد السياسي يتعين علي جميع المصريين مراجعة المواقف للوصول الي قرار نهائي في جولة الحسم للانتخابات الرئاسية.. ومن المؤسف أن يتبني البعض الموقف السلبي بعدم الذهاب الي صناديق الاقتراع في هذه الجولة من منطلق أنهم لا يريدون هذا ولا ذاك.. ومن المؤسف كذلك أن تنخفض نسبة التصويت في الانتخابات الرئاسية عن نسبتها الفائقة في الانتخابات البرلمانية مهما كانت الأسباب والمبررات.. وقبل أن ننسي في خضم هذه الأحداث الجسام, فان التحية واجبة الي القوات المسلحة المصرية التي ارتفعت الي مستوي المسئولية وأثبتت فعلا وقولا أنها علي المسافة ذاتها من كل القوي السياسية وأنها تواقة الي تسليم السلطة الي من يختاره الشعب. المزيد من مقالات محمد السعدنى