هل وضعنا العربة أمام الحصان حين نادينا بتجديد الخطاب الدينى لمواجهة الفكر المتطرف وألقينا بتلك المهمة الجليلة على عاتق المؤسسات الدينية التى تئن بأوجاع وأخطاء الماضي، وبات حالها كحال الطبيب الذى يداوى وهو مريض فى حاجة ماسة إلى العلاج؟! الإجابة: نعم، جاءت واضحة وصريحة من وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذى قرر تخصيص مؤتمره السنوى الذى سيعقد بمحافظة أسوان فى مايو القادم تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى، وبمشاركة وزراء أوقاف ومفتين وعلماء دين من مصر والدول العربية والإسلامية تحت عنوان: «دور المؤسسات الدينية فى مواجهة التحديات..الواقع والمأمول نقد ذاتى ورؤية موضوعية». ويناقش المحور الأول للمؤتمر الجماعات المتطرفة وحتمية المواجهة، وظاهرة «الإسلاموفوبيا» وضرورة تصحيح صورة الإسلام لدى الآخر، أما المحور الثانى وهو الأبرز فيناقش تطوير أداء المؤسسات الدينية وإعداد الكوادر المؤهلة لمواجهة التحديات، وحتمية التواصل والحوار المستمر، وضرورة التنسيق بين المؤسسات الدينية لمواجهة التحديات الراهنة. ولقد عكفت اللجنة المعنية بصياغة محاور المؤتمر برئاسة الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف، وضمت نخبة من علماء الأزهر والأوقاف من أبرزهم الدكاترة أحمد عجيبة الأمين العام للمجلس، وإبراهيم الهدهد القائم بأعمال رئيس جامعة الأزهر، ومحمد محمود أبوهاشم نائب رئيس الجامعة، وعبدالله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية، على وضع آليات ومحاور ومناقشات جديدة من شأنها النهوض بالمؤسسات الدينية وطرح آليات تطويرها على مائدة البحث والدراسة. تطوير الأداء وحول ضرورة إصلاح المؤسسات الدينية ومدى حاجتها إلى ذلك يقول الدكتور محمد محمود أبو هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر، إنه خلال اجتماع اللجنة تم وضع عدة محاور كلها تقوم على تطوير الأداء فى المؤسسات الدينية، والعمل على تجديد الفكر الديني، ونأمل أن يكون هذا المؤتمر بداية صحيحة وحقيقية للنقد الذاتى للمؤسسات الدينية، وأن نبدأ مرحلة الإصلاح المرتقب بالمؤسسات الدينية أولا ثم تتبعها مؤسسات الدولة جميعاً فى أن نعرف أخطاءنا ونفندها ونصلح من أنفسنا أولا قبل أن نخاطب الآخرين أو أن نطالبهم بالإصلاح. وهذا المؤتمر يأتى فى ضوء استكمال مؤسسات الدولة ومجلس النواب الذى يبدأ مرحلة جديدة من التشريعات وسيكون هذا المؤتمر مساعدا للمجلس فى استكمال الرؤية للمؤسسات الدينية وللمسائل الفقهية التى تدور فى الساحة الإسلامية والتى يتداولها البعض بغرض السيطرة أو الدعم لفكرهم ومذهبهم. تطوير مناهج التعليم من جانبه يشير الدكتور بكر زكى عوض عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والمشرف العام على مراكز التدريب ومراكز الثقافة الإسلامية بوزارة الأوقاف، والعميد السابق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، إلى أن المؤسسات الدينية تطلق على اتجاهين فى مصر فقط، الأزهر وما يتبعه من معاهد وجامعة ومجمع بحوث وإدارة بعوث ...الخ، وثانيهما، وزارة الأوقاف ويتبعها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. والغاية من النقد الذاتى لهاتين المؤسستين من وجهة نظرى تتمثل فى الآتي: أولا، فيما يتعلق بالمعاهد وقد بذلت محاولات للنظر فى مناهج مراحل التعليم الأولى ولكنها لم ترق إلى المستوى المطلوب نظرا لأن أكثر الذين تناولوا هذه المناهج بالبيان كانت توجهاتهم متفاوتة ما بين مرتبط بالقديم لا يريد الخروج عنه، وبين ليبرالى يريد أن ينطلق بها إلى أفق التعليم العام، وبين راغب فى الجمع بين الاتجاهين فيستبقى من الماضى ما لابد منه، بحفظ قدر من القرآن والعلم بشيء من علوم الدين الأولى فى الفقه والتوحيد والسيرة ... الخ، مع العلم بشيء من العلوم الحديثة التى تجعل الدارس متمكنا بين الثقافتين، وقد حرص الأزهر فى السنوات الأخيرة على أن ينشيء دراسة خاصة فى المعاهد الثانوية لطائفة مخصوصة من الطلاب لا يلبث الجهد المبذول أن يضيع سدى عندما يلتحق هؤلاء بالكليات الشرعية، لأنهم يستوون مع الطلاب الحاصلين على 50% فى كل المواد والمقررات والامتحانات ...الخ. رؤية جديدة ويرى د. بكر أن إصلاح المعاهد بإيجاز يتطلب أولا: اختيار المكان المناسب فى العملية التعليمية، مع توفير كافة لوازم هذه العملية، وسائل إيضاح تعليمية ومعامل، وتوفير كتب قبل بدء الدراسة...الخ، ثانيا: تدريب المدرسين تدريبا حديثا يتناسب مع الرغبة فى تطوير العملية التعليمية مع تحريرهم من ذل طلب المال، واشتغالهم بالزراعة والصناعة والتجارة لسد الحاجة المالية للأسرة جاعلين العمل فى التعليم آخر المراحل، ثالثا: كفاءة إدارية تتناسب مع المرجو فيما يتعلق بمديرى المعاهد والإدارات إلى أن يصل الأمر إلى أعلى الدرجات الإدارية، رابعا: امتحانات تعتمد على إعمال العقل لا على الحفظ، خامسا: كتابة مناهج من أهل الاختصاص لا من أصحاب المناصب والكراسى والمواقع مثلما حدث فى السابق، ويجب تشكيل لجان متخصصة فى كل علم من العلوم تجمع بين الاختصاص الدينى والتربوى والنفسى لكتابة المادة العلمية مستقاة من القرآن والسُنة وصفوة التراث الإسلامي، مع تدرج هذه المادة بما يتناسب وقدرات الطلاب العقلية والعلمية. تطوير الجامعة ويضيف د. بكر، أما بالنسبة للجامعة فلا بد من إعطاء الجامعة الحرية مع مراعاة المسئولية فى إعادة النظر فى المناهج أسماء ومسميات وتوصيف ومراجع مع عدم استقواء قسم بهذا أو ذاك ضد الأقسام الأخرى، وأن يكون الأساس فى العملية التعليمية رفع مستوى الخريج بما يتناسب مع سوق العمل، ولابد أن تتحرر الكليات من السلطات المفروضة عليها من هنا أو هناك، كما أن تفعيل دور مجالس الأقسام ومجالس الكليات ومجلس الجامعة من الأمور الواجبة لتحقيق الأمل المرجو فى هذا الأمر، ولابد من إعادة تقدير الأساتذة ذوى التميز العلمى من الجهات المختصة، مع فتح باب السبق فى مكافآت التميز العلمى على مستوى كافة التخصصات. كما طالب د. بكر، بمراعاة الكفاءات فى كل المواقع الإدارية، وتقديم أصحاب الرؤى من فروض العين فى أيامنا هذه من أجل النهوض بالعملية التعليمية، ولابد من تشكيل لجان لدراسة جوانب السلب فى السنوات الماضية وجوانب الإيجاب، فنبنى على جوانب الإيجاب ونستبعد جوانب السلب كنقطة للانطلاق. قيادات أهل الثقة وحول سبل إصلاح المؤسسات الدينية كبادرة لقيامها بمهمة تجديد الخطاب الدينى يقول الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إن الخطاب الدينى بمجالاته التعليمية، والدعوية، والإعلامية، ينبغى أن يصدر من أكفاء خبراء علماء حكماء، لتصحيح مفاهيم مغلوطة، وتصويب أفكار خاطئة، يخلصون لله، ويصدقون معه سبحانه وتعالى، ومقصدهم المصلحة العامة، وفقه الأولويات والأوليات، والمصالح، بمنهج: (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) سواء كان ذلك على مستوى فردى أو على مستوى مؤسسي، ومعظم المؤسسات الإسلامية بها قيادات جيء بهم بثقافة الرضاء وأنهم من أهل الثقة، وللأسف تم استبعاد العلماء الحقيقيين، وهم على كفاءة وخبرة، وصارت مؤسسات إسلامية تدار من قبل غير الأكفاء بثقافة الوظيفة، وليست بمنهج الرسالة، وشتان بين قيادى موظف كبر أو صغر، وما بين صاحب رسالة وفكر إصلاحى مثل الإمام محمد عبده، والشجاعة فى مواجهة الأزمات كالشيخ المراغي، يوم أن نرى عبقرية كالشيخ شلتوت، ونورانية كالشيخ عبدالحليم محمود، وأن نرى رسوخ القاضي، مثل الشيخ جاد الحق، آخر شيوخ الأزهر الذين ساهموا فى مجابهة التطرف والإرهاب. خطوات عاجلة ويقدم د. كريمة تصورا للخطوات العاجلة التى يمكن اتخاذها لإصلاح المؤسسات الدينية، مؤكدا أنه لا يعهد إلى مؤسسة بعينها أن تعالج وهى بحاجة إلى معالجة، فكما قيل (فاقد الشيء لا يعطيه)، فعملية تطوير المؤسسات الدينية، يستدعى فى البداية، النظر والمراجعة، والتقييم لأداء شاغلى الوظائف القيادية بها، لأنه ليس من المعقول أن يدعى إلى تطوير إنشائى دون خطط عملية على أرض الواقع، مع شخصيات لا تملك الخبرة الكافية أو الدراية الوافية لقيادة مؤسسات لعمل ما يستلزم لخطاب دينى متوازن، واصفا من وجهة نظره هذه المؤتمرات وأشباهها بأنها مضيعة للوقت وصراعات بين هذه المؤسسات، يراها ويشعر بها القاصى والداني، فيجب على الأجهزة المعنية فى الدولة إيقاف هذا الصراع الدائر والحاصل بين هذه المؤسسات، وأن تبذل جهودها الحثيثة لإيجاد صف من الشباب المهمش وهم كثر فى الأزهر والأوقاف، لكن للأسف السياسة المتبعة أبعدت التخصصيين وأبقت وأفسحت المجال لمن يقدمون التصريحات الرنانة والوعود والآمال التى منذ عامين لم تضف شيئا يعتد به فى الواقع العملي. بارقة أمل وفى سياق متصل قال الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن ندرك أن طرح النقد الذاتى لهذه المؤسسات فى المؤتمر سيخرج بالقطع هذا النقد عن ذاتية الناقدين، لأن أكثر نقاد مسيرة بعض هذه المؤسسات سيكونون من غير أفرادها، فضلا عن هذا فإن المجتمعات الإسلامية التى تجل أفراد هذه المؤسسات لا تقبل أن يطرح ما تعانى منه من معوقات أو نحوها على الملأ لما فى ذلك من جعل أداء هذه المؤسسات مادة تفتح شهية الحاقدين والناقمين على هذه المؤسسات للهجوم عليها، والنيل منها، ودعوة الناس إلى الانصراف عن دعوتها ونشاطها، خاصة أن بعض هؤلاء بالأمس القريب اتهم المؤسسة الدينية ببلده بأنها مؤسسة إرهابية، فهذه نقطة محورية ينبغى التنبه لها قبل صياغة محاور المؤتمر. لا حاجة للتطوير على الجانب الآخر يرى الدكتور رأفت عثمان، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء، أن المؤسسات الدينية فى العالم العربى والإسلامى تقوم بواجبها بقدر ما تستطيع لنشر الفكر الإسلامى البعيد عن الغلو والتطرف، وعلى رأس هذه المؤسسات الأزهر، يقوم بهذه المهمة بجدارة وأهلية للنهوض بالفكر الديني، وكل السهام التى تصوب إلى الأزهر إنما هى ذات أغراض ليست مبرأة من الهوى، فالذى يقول إن مؤسسة الأزهر تحتاج إلى تطوير يلزمه أن يقول لنا ما هو هذا التطوير، فنحن فى الجامعة ندرس مناهج تبرز الفكر الإسلامى الصحيح، وعلى وجه الخصوص كلية الشريعة والقانون يدرس الطلاب بجوار العلوم الشرعية العلوم القانونية، والعلوم المتصلة بالشريعة مباشرة مثل الفقه وعلوم الفقه وتفسير آيات الأحكام وشرح أحاديث الأحكام كلها متصلة بحياة الناس، كما ان الدراسة فى الأزهر لا تبنى على التعصب فى رأى معين كما هو الشأن فى البلاد الأخرى، وإنما للأزهر الرأى والرأى الآخر يعرض بحيادية وكتب التراث فى العلوم الشرعية تسير على الحياد التام أيضا واحترام أصحاب الآراء الأخرى، ويقوم الأساتذة بالرد بكل موضوعية وبكل تجرد على هذه الآراء، وكذلك المجامع الفقهية الموجودة الآن فى البلدان العربية والإسلامية، مثل مجمع البحوث وكبار علماء الأزهر والمجمع الفقهى التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، والمجمع الفقهى التابع لرابطة العالم الإسلامى بمكة، فكلها تقوم بالبحث العلمى فى سائر مجالات الحياة، سواء اقتصاد طب بيولوجيا وكل ما يستجد من قضايا للكتابة والبحث فيها، وأى تطوير ينادى به البعض حتى يكون لهذا النداء صدى حقيقي. اللوائح نصت على التطوير ويؤكد الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق، وعضو هيئة كبار العلماء، أن جميع الجامعات منذ أنشئت تنص لوائحها على أنه كل ثلاث سنوات يعاد النظر فى مناهجها، فهى مؤسسات بشرية وليست معصومة فهى فى حاجة إلى متابعة مستمرة، وهذا المنهج فى جميع المؤسسات الدينية الأخرى تحتاج إلى مراجعة بين وقت وآخر.