لم يصدقها أبواها عندما أخبرتهما ذات صباح أنها قضت ليلتها علي سطح القمر وحيدة كنسمة هواء بريئة في ظهيرة يوم بشهر أغسطس, نظرت لها أمها بطرف عينها ثم صرفت بصرها بينما لم ينظر الأب من الأساس. القمر ليس بعيدا, هكذا قالت, القمر هاهناك, أراه من شرفة حجرتي, أقرب لنا من قلب المدينة الصاخب والطريق إليه أقل ازدحاما... القمر ليس مشرقا كما تظنون, هكذا أضافت, القمر أكثر ظلمة من الأرض وليلها, ليس به أعمدة نور أو كشافات ليلية أو دوريات حراسة, فالقمر آمن. كان عمله بعيدا جدا, ولم يكن يصل إلي البيت إلا متأخرا, متأخرا جدا... يأتي بعدما يأتي القمر... ظنت ابنته أن لهذا السبب لم يصعد أبوها إلي القمر من قبل, ولكنه قد يصعد عندما يتوقف عن العمل, أو عندما يتوقف عن الحياة. أما أمها فلم تخرج أبعد من سوق الخضراوات إلا بأيام الأعياد, لذلك لم تصعد إليه هي الأخري. لكن سارة, كان القمر أقرب إليها من أثر قدميها... كانت ما إن يقبل المساء إلا وتتهيأ, فتلبس تنورتها المفضلة, منفوشة مثل الستائر وفساتين الأفراح ذات الذيول, وبيضاء كالسحب وواسعة كالحياة, كانت تظنها ستحملها إلي أعلي كالبالون, سترفعها إلي حضن السماء. الكلاب تعوي ليلا وكأنها تطاردها حتي تيأس من ملاحقتها, فتنام. القمر لم يكن مملا كما تصورت, بحثت عن أنفاس جاجارين, عن خطي آرمسترونج, عن العلم الأمريكي, عن الكلبة لاكي. وقفت ومدت قدمها خارج إطار القمر, داست علي الأرض واتكأت عليها, هاهي إفريقيا متدلية كعنقود العنب وهاهو الدم ينبض من الشام, وها هي السحب تغطي القاهرة, أدارت الأرض بسبابتها فلفتها حول نفسها. لقد احتضنت العالم, ضمت الكرة الأرضية إلي صدرها, شعرت بسخونتها وبرودتها, شعرت بطعنات السهام تخترقها, شعرت بلهيب الانفجارات وتدفق الدموع. لم تفتقد أحدا فوق القمر, فأمها بالمطبخ ووالدها بالعمل أو بالسرير, لم تفتقد سوي ابن الجيران, لم يكن لها ابن جيران محدد, فالشقة المقابلة لحجرتها كانت للإيجار, ولكنها اعتادت أن تحب ابن جيرانها أيا كان... للأسف لم يكن لها ابن جيران فوق سطح القمر, أو أن العالم كله صار جارها, ستختار هذا الأشقر ليكون ابن جيرانها حتي الصباح, وغدا ستختار آخر وآخر وآخر... ستنعم بابن جيران جديد بكل ليلة. لقد كسرت كل القواعد, لم تعد تغلق النوافذ أثناء نومها, فالقمر بلا نوافذ, ولم تفرد الأغطية جيدا فوق جسدها الضئيل, لم تنم علي السرير, ولا حتي علي الأرض, نامت بين بين, في الفضاء, تفصلها عن سطح القمر سنتيمترات, وتقلبت يمينا ويسارا وهي معلقة بفضائه الوسيع... لقد علمت عن هذا من نيوتن, كان مدرسها بحصة الفيزياء... لم تحب شعره المجعد, ولكنها أكلت تفاحته. وعندما سطع الصباح, أزاحت الضوء بيدها, وقفت علي سطح القمر, رمقت ابن الجيران الأشقر بنظرة بعيدة, خرج إلي سطح بنايته العالية, كان القمر يتثاءب بصدر السماء, نفخ الأشقر من دخان سيجارته, فرسم غيوما, نقش سحبا وبث ضبابا... دهس السيجارة تحت قدمه, ومد يده عاليا فبدد الغيم وأزاح الضباب, فابتسم القمر, وابتسمت سارة, عادت إلي سريرها, فانصرف القمر, وسطعت من بعده الشمس... عندما ذهبت تحكي لأهلها كان والدها بالعمل, والدتها بالمطبخ, انغمست بحلمها, توقفت في وسط الطريق إلي أي منهما خرجت إلي نافذتها بانتظار ليلة أخري علي سطح القمر.