أكد الدكتور مجدى عاشور المستشار الأكاديمى لمفتى الجمهورية، أن دار الإفتاء تعكف حاليا على إعداد رؤية متكاملة مع بعض الإجراءات التوضيحية التى تساعد فى عملية «تقنين الفتوى» للحد من فوضى الفتاوى التى انتشرت فى الآونة الأخيرة. وطالب بالإسراع فى صياغة إستراتيجية فكرية شاملة لاحتواء الشباب فكريا ووقايتهم من العنف وتحصينهم من الفكر المتطرف، وتوجيه طاقاتهم واستثمارها لبناء الوطن والنهوض به. وقال فى حوار مع «الأهرام»، إن تجديد الخطاب الدينى يستلزم إحياء منظومة القيم والأخلاق فى نفوس الناس. وحذر من بعض دعوات التجديد التى قد تتخذ أشكالًا هدامة لدفن التراث وإهالة التراب عليه، بدعوى أن هذا هو الفكر المعاصر المتطلب من الخطاب الدينى أن يتبناه تيسيرا فى الدين. وكشف عن أن قضايا الطلاق أبرز المسائل التى ترد إلى دار الإفتاء، وان الإفتاء على الهواء مباشرة أو ما يعرف «بالإفتاء الفضائى» فى وسائل الإعلام له ضوابط وشروط.. والى نص الحوار: ما أبرز القضايا التى يسأل عنها الناس فى دار الإفتاء؟ تحرص دار الإفتاء المصرية على التواصل الدائم مع الجمهور، وعنوان مقرها الرئيس الكائن بحديقة الخالدين بالدراسة، وتقدم خدمة الهاتف المسجلة، عن طريق الاتصال برقم مختصر يسهل على طالب الفتوى استخدامه، فمن داخل مصر يتم الاتصال برقم (107)، ومن خارج مصر يتم الاتصال من رقم (25970400- 00202) إلى رقم (25970430- 00202)، كما تستقبل فتاوى الهاتف المباشرة على الرقم المختصر (090077017)، وتستقبل أسئلة البريد الإلكترونى على نافذة خاصة موجودة على الموقع الإلكترونى للدار: WWW.dar-alifa.org، وتُعَدُّ قضية «الطلاق» هى أبرز القضايا التى يكثر ورودها إلى دار الإفتاء المصرية، والفتوى فى هذه القضية تتم وفق ضوابط ومراحل، حيث تقوم الإدارة الشفهية بتكوِّين لجنة من أمناء الفتوى بها بصفة دورية، تعقد مرة فى كل أسبوع، للنظر فى أسئلة الطلاق التى لم يتيسر لأمين الفتوى المستقِبل للسؤال البت فيها، فيقوم بدوره بتحويلها إلى اللجنة، فإن تعسر الحَلُّ على اللجنة، أخذ بقرار فيها بتحويلها أيضا إلى لجنة أعلى من علماء الدار، وإلا تحوّل إلى فضيلة المفتى شخصيًّا؛ لعله يجد لها حلًّا فى علمه الواسع، محافظةً على الأسر والأطفال. ومن له حق الإفتاء على الهواء مباشرة؟ يمكن إطلاق مصطلح «الإفتاء الفضائي» على برامج الفتاوى، وهذا النوع له خصائص كثيرة لها تفاعلاتها وآثارها على وضع الإفتاء ونتائجه، ومن ثَمَّ يستوجب تحقق المتصدر بأهلية الفتوى المعتبرة عند أهل العلم، مع مراعاة منهج الوسطية فى الطرح، ومخاطبة الناس بما يعرفون، والتحوط فى كل عبارة أو كلمة، والحرص على مزيد من الأناة والهدوء، والنظر فى العواقب والمآلات، فقد تكون الفتوى صحيحة لشخص دون آخر بحسب حال كل منهما، ولا بد من مراعاة عادات المجتمع وتقاليده التى لا تخالف النص الشرعي، وينبغى للمفتى أن يوازن بين الفتوى وتصحيح أفعال الناس قدر المستطاع. فوضى الفتاوى كيف يتم القضاء عليها؟ هناك محاولات حثيثة من علماء الأمة ومفكريها للتصدى لمشكلة فوضى الإفتاء، إلا أن معظم تلك الجهود لم تصل إلى نتيجة إيجابية بعد، ويعود جزء كبير من ذلك إلى الانتشار الكبير الذى تتمتع به الفضائيات وغيرها فى المجتمع المصري، إضافة إلى تعددها وتنوعها، فضلا عن مواقع الانترنت وهواتف الفتوى وغيرها من أساليب الفتوى التى انتشرت بفضل التطور التكنولوجى وثورة الاتصالات الحديثة، وإن كانت تلك الجهود قطعت شوطًا كبيرًا فى سبيل التصدى لتلك الفوضى، إلا أنه ينتظرهم المزيد، وللقضاء على هذه المشكلة يجب أن نحقق ضوابط الفتوى على النحو المعتبر عند أهل العلم من توافر أهلية الإفتاء، والتحلى بصفات الإفتاء، والانضباط المنهجي، وتيسير الفتوى؛ والتوجه نحو مؤسسات الفتوى. وهل نحن بحاجة إلى قانون ينظم عملية الفتوى؟ بالطبع نحن بحاجة لمثل هذا القانون، وكما أن القوانين وأخلاقيات المهن تمنع من لا يحمل المؤهل العلمى من ممارسة الفن الخاص به، بأن يمارس الهندسة وهو لم يدرس علومها، أو يمارس الطب وهو ليس بطبيب، فكذلك لا يحق لمن لم يدرس الشريعة بصورة تؤهله لمناقشة القضايا فيها أن يدعى ما ليس له، لذا فإنه يجب أن تُقَنَّن عملية الإفتاء، ودار الإفتاء المصرية تدعو إلى ذلك عبر القنوات القانونية من خلال مجلس النواب وذلك بأن توضع الشروط والضوابط التى تضمن تحقيق أن من يتصدر للفتوى يكون مؤهلا علميًا، حتى نبعد عن التطرف والشذوذ فى الأقوال، والاغتراب فى الفتاوى، ومن ثمَّ نحمى المجتمع وثوابته. وتقوم دار الإفتاء بوضع رؤية كلية وخطوط عريضة مع بعض الإجراءات التوضيحية التى تساعد فى عملية تقنين الفتوى للحد من فوضى الفتاوى التى انتشرت فى الآونة الأخيرة خاصة من أصحاب الفكر المنحرف والتيارات المتشددة، وتعمل دار الإفتاء جاهدة على ألا يتصدر للفتوى إلا المتخصصون الذين جمعوا بين العلم الشرعى والتدريب على الفتوى من خلال ما يسمى «بصناعة الفتوى ومهارات الإفتاء»، وهذا جزء لا يستهان به فى عملية تجديد الخطاب الدينى بإسناد الأمر لأهله العارفين به حالا ومآلا بما فيه تحقيق مصلحة الناس فى نطاق من مقاصد الشرع العليا. وماذا عن مبادرات تجديد الخطاب الديني؟ يُعَدُّ تجديد الخطاب الدينى سمة ملازمة للإسلام، وضرورة لاستمراره دينا عالميا صالحا لكل زمان ومكان؛ بغية النهوض بواقع الأمة، وتطوير ذاتها نحو التقدم والرقي، والانفتاح على العصر ومعطياته المتجددة، مع المحافظة على ثوابت الدين وقطعياته، التى تنسجم مع العقل السليم والفطرة القويمة، وهذه السمات هى مرتكزات أصيلة لخطاب الوسطية، المتحقق فى منهج الأزهر، الذى يستلهم من تراث الأمة عبر القرون، دون تعصب لمذهب أو فرقة أو جماعة، ما هو صالح لتبليغ العلم وبيان الحكم الشرعى فى قضايا الناس والعصر، وأهم سمات ذلك التجديد هو إحياء منظومة القيم والأخلاق فى نفوس الناس حتى يحصل تغيير إيجابى فى المجتمع. وهل لذلك أثر ملموس على أرض الواقع؟ وما هى آليات التجديد؟ هناك جهود حثيثة تبذل فى هذا الإطار أرى من المبكر استعجال نتائجها، وتشمل آليات ووسائل التجديد أمورًا عديدة ابتداءً من رصد الواقع المعقد معرفيًّا واجتماعيًّا، ومرورًا بإعداد النشء وتأهيله معرفيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، وانتهاءً بمحو الأمية الدينية الشائعة فى عموم الأمة. وبم تردون على من يتخذ هذا الأمر سببا للهجوم على ثوابت الدين؟ يحلو للبعض الترويج بأن عدم التجديد فى الخطاب الدينى هو أصل الأزمات وأن الأزهر وعلماءه أغلقوا هذا الباب خوفًا على التراث الذى لا يتناسب مع الواقع المعاصر، وهم بذلك يصورون للناس أن هذا التراث هو سبب ما نعانيه من خطاب دينى ينتج عنه فى بعض الأحيان أفكار متشددة وظهور جماعات لا تنتمى بتصرفاتها إلى الإسلام الحق، وبذلك نلاحظ أن بعض دعوات التجديد قد تتخذ أشكالًا هدامة لدفن التراث وإهالة التراب عليه، كما يلاحظ ظهور بعض ألوان التجديد فى الخطاب التى تتخذ مسارات أخرى تصل إلى حد إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، بدعوى أن هذا هو الفكر المعاصر المتطلب من الخطاب الدينى أن يتبناه تيسيرا فى الدين، ولا شك فى أن كثيرًا من هذه الدعوات قد جانبها الصواب، لأن تجديد الخطاب من سمات دعوة الإسلام الجامعة، فالتغيير- ومنه التجديد- كما يكون فى النفس يكون فى الأدوات والوسائل من باب أوْلَى، لأن فيه انفكاكا من القوالب والأطر الجامدة، وانفتاحا على العصر ومعطياته المتجددة، مع المحافظة على ثوابت الدين وقطعياته، التى تنسجم مع العقل السليم والفطرة القويمة. وكيف تتم مواجهة الأفكار المتطرفة التى انتشرت بين الشباب؟ المواجهة الفكرية لا بد أن تنطلق من مبدأ المحافظة على فكر الوسطية فى المجتمع من التطرف والانحراف، حماية للمنظومة العقدية والثقافية والأخلاقية فى المجتمع المعاصر. وهذا الأمر يتطلب من العلماء المشهود لهم بالوسطية أن يتقدموا الصفوف فى نشر المنهج الإسلامى الوسطى والبدء فى برامج إعادة تأهيل الشباب الذين سقطوا فى براثن التطرف والعنف، وإعاقة أى عمليات تجنيد جديدة من خلال الحملات التوعوية والبرامج الإرشادية والدروس واللقاءات الدينية، كما ننصح باتخاذ أساليب وطرق مختلفة لاحتواء الشباب ووقايتهم من مخاطر التطرف والعنف، من خلال الالتزام بتقديم نموذج وسطى للتدين والسعى الجاد فى أن تكون الوسطية ثقافة عامة سائدة وترسيخ واستنهاض مشاعر الترابط بين جميع فئات وشرائح المجتمع، وتوعية المجتمع بأضرار وعواقب التعصب والتشدد وأخذ العبرة من المجتمعات التى تعانى هذه الآفات الفكرية التى تفتك بنسيجها الوطني، وتوجيه طاقات الشباب واستثمارها لصالح الوطن والحرص على مشاركتهم لرصد رؤاهم تجاه الوطن، والتواصل مع شباب الجامعات، من خلال إقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات داخل الحرم الجامعى وفى الدروس الدينية والثقافية، واعتماد الحوار كوسيلة للتغيير، ومقابلة الكلمة بالكلمة، والفكر بالفكر، والحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وكذا تبنى سياسة الاحتواء الفكرى لمن وقعوا فى براثن التطرف، ذلك لأن الاحتواء سيحدث تقاربًا بينهم وبين محاوريهم من العلماء، مما يفتح آفاقا للحوار والسماع، فإن استمتعوا وفتحوا آذانهم وقلوبهم كان هذا أدعى إلى إقناعهم.