علمتنا السياسة العربية وثورات مايسمى «الربيع العربي» فى السنوات الخمس الماضية أن نعرف جيداً موضع أقدامنا حتى لا ندوس فى منطقة رمال متحركة جديدة تقلب الموازين أكثر مما هى مقلوبة، وحتى لا نصطف فى الجانب الخطأ فى وقت لا يمنحنا التاريخ فرصا كافية للخروج من مأزقنا الراهن، ومن خيبة كبرى فى تغليب مصلحة الشعوب فوق الخصومة والعداوة بين طرفين أو أكثر، فقد كان امتحان السنوات الخمس الماضية كفيلا بأن يعيد إلى مصر توازنها وأن يعيد لها ثقتها فى خياراتها ومبادئها الراسخة فيما يخص سياستها الخارجية، وأن تنظر بعين فاحصة فيما يجرى ويدور حولها من تدابير وإجراءات، بعضها يحمل ظاهرا جيدا، لكنه فى حقيقة الأمر ليس ما نأمله أو نتوقعه. وإذا تتبعنا سير الأحداث فى المنطقة العربية على مدى أكثر من ستين شهرا من الصعود والهبوط، ومن المد والجزر، ومن النجاح والإخفاق، ومن اليقين إلى السراب، نجد أن خيارات السياسة المصرية بعد ثورة 30 يونيو يمكن أن تشكل أهمية خاصة للوضع العربى المأزوم فى ليبيا وسوريا على وجه التحديد، فالبلدان يقعان فى صميم الأمن القومى المصرى، وما ظهر من تمدد للتنظيمات المتطرفة والدموية فيهما على مدى العامين الماضيين يؤكد أن الخيارات والسيناريوهات المطروحة لإنهاء الأوضاع الكارثية فيهما يجب أن يكون للقاهرة رأى فيها، وأن يصغى من بيدهم تحريك أطراف اللعبة على الأرض إلى وجهة النظر المصرية جيداً قبل المضى قدما فى مغامرات جديدة تزيد من وطأة معاناة الشعبين فى ليبيا وسوريا، وتزيد من تفكك الدولتين، ومن خطر التقسيم الذى يراه البعض أمراً محتوما ونراه نحن خيارا كارثيا لا يجب أن يدفع الشعبان إليه تحت أى ظرف من الظروف. ومن منطلق ثوابت السياسة الخارجية المصرية، تؤكد مشاورات ومحادثات كبار المسئولين المصريين مع دول الإقليم والقوى الفاعلة فى العالم أن مبدأ عدم التدخل فى الشأن الداخلى يأتى على رأس المبادىء التى تحكم السياسة سواء فى المحيط العربى أو على المستوى العالمى، وهو نهج سارت عليه الدولة المصرية على مدى عقود طويلة، ولم تتخل عنه يوماً لثقتها بإن المبدأ يحمى مصر من تدخلات الآخرين، ويحول دون اتخاذهم أي ذريعة للتدخل فى الشئون الداخلية لمصر. ومن واقع ما تؤمن به الدولة المصرية، ترفض القيادة السياسية تدخل قوات أجنبية فى أراض عربية بدعاوى شتى وبحجج متباينة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب للشعوب التى لا قبل لها باللعبة الجهنمية التى تدور حولها. وقد علمتنا تجارب السياسة العربية ... أنه غالبا مايكون هناك إصرار وحشد وتعبئة لاتخاذ القرار ثم غياب الرؤية فى التعامل مع تداعياته التى كثيرا ما تأتى مدمرة، فلم تسمع الأطراف العربية والدولية للآراء التى ارتفع صوتها محذرا من شن حلف شمال الأطلنطى لضربات ضد الجيش الليبى فى عام 2011 وتجاهلت قوى عدة النصائح المخلصة عن خطورة وجود فراغ هائل فى السلطة المركزية فى بلد لم يكن معتادا على وجود حكومة بالمعنى المتعارف عليه دوليا قبل سقوط معمر القذافى، ولكنه كان يحكم بتوازنات قبلية وبواسطة حكم استبدادى، وعندما سقط الحكم انكشف الأمن القومى العربى وبدت المسألة وكأنها انتقام شخصى من القذافى وليس إنقاذ الشعب الليبى من ديكتاتور، «فالجماعة» العربية التى منحت «الناتو» تفويضا بضرب ليبيا لم يكن لديها أى خطه عن ليبيا بعد القذافي. وخرج الكل يبحث عن نصيب فى السلطة والثروة فوقع الاقتتال والتناحر، وأسهمت حسابات خارجية متشابكة فى وقوع ليبيا فى فخ الجماعات المتطرفة وعصابات القتل التى تتنقل بين حدود الدول العربية المنهارة أمنيا وسياسيا بغرابة شديدة، وتحت سمع وبصر القوى الدولية التى قامت بقصف المدن الليبية للإجهاز على الحكم السابق فى البلاد! فى زيارته الأخيرة لواشنطن قبل أيام، أوضح وزير الخارجية سامح شكرى رؤية مصرية أمنية مفادها أن ليبيا فى حاجة إلى تشكيل حكومة موحدة لتقود جهود محاربة تنظيم (داعش) الإرهابى وذلك قبل أن تختار الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون التدخل العسكرى فى البلاد، وكان الوزير شكرى واضحا فى مقابلاته مع المسئولين الأمريكيين. ومع وسائل الإعلام الأمريكية فى تحذيره من أن التدخل العسكرى فى ليبيا يجب ألا يتم دون وجود قيادة ليبية، وفى حالة طلب الحكومة الجديدة فى التدخل الخارجى رغم إقراره بأن جهود تشكيل حكومة واحدة من حكومتين متنافستين مسألة صعبة, فمهمة محاربة الإرهاب تقع على عاتق الحكومة الليبية وما تتخذه من قرارات مرتبطة بتعزيز قدرتها فى هذا الشأن بالتعاون مع دول الجوار والدول الاوروبية فى إطار الجهود الدولية، وأن الخطوة الأهم فى هذه المرحلة هو أن يتم تشكيل الحكومة الليبية، وأن تتخذ القرارات المناسبة وفقا لتطلعات الشعب الليبى وإرادته الحرة. بالمثل، ترى مصر أن اختصار الوضع السورى فى ضرورة رحيل بشار الأسد عن السلطة هى مسألة لم تعد مجدية، ولن يحل الأزمة الطاحنة التى راح ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين، وتشرد فى كل بقاع الأرض الملايين من أبناء أمة عظيمة لم يكن مقدرا لهم يوما أن يتشتتوا فى الأرض مثلما هو الحال اليوم.... الوضع فى سوريا ليس مسألة شخصية ولكنه شعب وأرض ودولة يتعرضون للإبادة والمحو من على خريطة الإقليم لصالح اسرائيل، وعملية استهداف الرئيس بشار الأسد لم تعد واقعية أو قابلة للتنفيذ بعد دخول أطراف قوية على خط المواجهات الدائرة هناك، وفشل سيناريو الإطاحة السريعة بالرجل... والدليل أن كل المؤتمرات وجولات التفاوض الأخيرة لم تفلح فى تحقيق خطوة إيجابية واحدة تعطى بارقة أمل فى الحل. إن التلويح بالتدخل العسكرى فى سوريا وليبيا لن يجدى نفعا فى تلك المرحلة، ولن يمنح فرصة للسلام مثلما يزعم البعض، ولكنه سيؤدى إلى تأجيج الحروب والصراعات الداخلية وارتفاع لهيب النيران فى دمشق وحمص وحلب وطرابلس وبنغازى وغيرها من المدن المنكوبة بجرائم الميلشيات المسلحة المدعومة من دول فى الإقليم، وقوى كبرى التى ستجد فى أى تدخل خارجى فرصة سانحة للتمدد وفرض سطوتها وانتزاع أراض جديدة من قبضة الحكومات الشرعية فى البلدين، وتقويض كل فرص قيام سلطة توافقية، لأن الحرب والتدمير لا يمكن أن يأتيا بمثل تلك السلطة التى يتخيل أطراف عربية ودولية أن بإمكانهم فرضها بعد زوال. تقول مصر اليوم بعلو الصوت إن الحرب على تنظيم داعش فى ليبيا يجب أن تقوده حكومة ليبية وطنية، وتقول مصر التى حاولت جماعة الإخوان الإرهابية توريط جيشها فى سوريا خلال حكم الجماعة الأسود للبلاد: إن الحل فى سوريا لن يكون بمزيد من سكب «البنزين» على النار، فإضعاف الحكومة المركزية فى دمشق جاء بالخراب والفتنة ولم يكن هدف القضاء على حكم بشار الأسد بأى ثمن حصيفا أو موفقا،ً وعليه فإن عودة الحديث عن الخيار العسكرى الخارجى (سماه جون كيرى وزير الخارجية الأمريكية الخطة ب) تمثل خطرا داهما وتوجد صراعا إقليميا أوسع فى مداه من الوضع الحالى، وربما يدفع الشرق الأوسط إلى حرب بلا نهاية. الحل الوحيد المقنع فى سوريا هو تسليم كل الأطراف بضرورة الجلوس على مائدة التفاوض دون شروط تعجيزية، ودون إملاء من طرف على أطراف أخري، لأن توازنات القوى على الأرض تقول إن الجيش السورى يحقق تقدما فى مواجهة المعارضة، وإن روسيا تقف فى ظهر الجيش السورى، وإن المعارضة المرتبكة لا يمكنها أن تملى شروطا بوضعها الحالي.. فلم التعنت؟ ولم الإصرار على مسلسل القتل وتدمير قدرات الشعب السوري؟ وماذا بعد التدخل؟ ومن يضمن خروج القوات الأجنبية؟ ومن يدفع فاتورة الحرب؟ ومن يدفع تكلفة الإعمار؟... ومن سيستفيد ؟!!... .... هل فكرت «الجماعة» العربية فى هذا؟... وهل طرحت إجابات؟... وهل الضمير العربى بلغ حد التعامل مع دول عربية كليبيا وسوريا باعتبارها مشروعا تجاريا؟!. ....... الإجابة على ضوء التجارب هي: بالطبع لا. رغم التحفظات السابقة التى تنبع من المباديء التى تحكم السياسة الخارجية، فإن مصر تؤكد طوال الوقت أنها تلعب دورا مهما وحيويا فى إطار التحالف الدولى لمحاربة تنظيم داعش الإرهابى ولتغيير الخطاب الدينى، ومقاومة الأفكار المغلوطة التى تُستخدم لاستقطاب عناصر مقاتلة، وتكثيف التعاون الأمنى والاستخبارى لمنع الدعم المادى والأسلحة عن هذه التنظيمات، وهو ما أكده الرئيس عبد الفتاح السيسى ووزير الخارجية سامح شكرى فى كل اللقاءات التى جرت فى الآونة الأخيرة. غاية من نرجوه اليوم أن تتحرك حكومات الدول العربية الفاعلة باتجاه منح فرصة لتقرير مصائر العرب بأيد عربية قادرة على تقديم حلول للأزمات فى إطار عربى، وتقرير مصائر العرب داخل الإطار العربى، وهو حل يمكن أن يتحول إلى واقع لو خلصت النيات. تشريع الصحافة وأهل المهنة والدولة حسنا جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى بعقد اجتماع اللجنة الوطنية لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية مع المستشار أحمد الزند وزير العدل بوصف وزارته وإدارة التشريع بها مسئولين عن إعداد مشاريع القوانين التى تقدمها الحكومة لمجلس النواب. ضم الاجتماع الذى عقد يوم الثلاثاء الماضى ممثلين عن اللجنة الوطنية، وعددا من ممثلى الصحافة المكتوبة من رؤساء تحرير الصحف القومية والخاصة، ونوابا بالبرلمان وشخصيات صحفية ووجوها معروفة فى مجال الإعلام المرئى وسادت أجواء إيجابية لحسم الجدل وقفل باب المزايدات بأن الحكومة ترفض القانون الذى أعدته اللجنة بدعوى الميل إلى تقييد حرية الرأى والتعبير، وكان المستشار أحمد الزند واضحا ومباشراً عندما أكد عددا من النقاط التى استقبلها ممثلو مهنة الصحافة بارتياح كبير وهي: - تأكيد احترام الدولة لحرية الصحافة والرأى وأن القانون يحظى بأولوية لدى الرئيس السيسى وهو ما دعاه إلى التوجيه بعقد تلك الجلسة. - أن مشروع قانون اللجنة الوطنية هو الأساس الذى سيتم العمل عليه. - أن الإدعاءات والمزاعم التى تتردد تهدف إلى إثارة البلبلة والوقيعة بين الحكومة والصحفيين. - الحكومة لن تتقدم بمشروع قانون إلا بموافقة وقبول نقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين «تحت التأسيس» وبتقديم إقرارين منهما بالموافقة على نص المشروع المقدم لمجلس النواب وقد طلب المستشار الزند فى نهاية اللقاء تشكيل لجنة مشتركة تبدأ اجتماعاتها فى نفس اليوم لضمان الجدية التامة فى إدخال التعديلات المطلوبة أو مناقشة بعض المواد بشكل موسع. وتضم اللجنة المشتركة ممثلين لقسم التشريع بوزارة العدل. وممثلين للجنة الوطنية ولنقابتى الصحفيين والإعلاميين، وممثلى الوزارات المعنية. ولعل تلك الخطوة تخرس ألسنة تحاول الوقيعة بين أهل المهنة والدولة (وليس الحكومة فقط). بعد النتائج الإيجابية للإجتماع الأخير، نتوقع أن تبدأ اللجنة عملها على الفور، وأعضاؤها أمامهم فرصة انشغال مجلس النواب فى تشكيل هيئة المكتب واللجان النوعية فى الأسبوعين القادمين للانتهاء من المناقشات والتعديلات المطلوبة ، ولو كان أهل المهنة «جادون» فيما يرونه فى مصلحة الصحافة المصرية فسيكونون أكثر حرصا على صياغة مشروع نهائى وتقديمه فى أقرب فرصة ممكنة إلى مجلس النواب. وقد أسعدنى أن تكون المناقشة فى الإجتماع الأخير مع المستشار الزند فى اتجاه الحرص على مصلحة مهنة الصحافة، وحق الرأى العام فى المعرفة، فعندما تحدث ممثلو الصحفيين عن أن مشروع القانون الذى أعدته اللجنة هو ترجمة للمواد 71 و72 و73 و211 و212 و213 من الدستور فقط، فاجأ المستشار حسن البدراوى مساعد وزير العدل للتشريع الحضور بأنه يجب أيضا أن يستند إلى المادة 68 الخاصة بحق الحصول على المعلومات. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام