قالت.. يقولون ان النساء كالمدن لكل مدينة طعم ولون ومذاق فكيف تري مدينتنا العريقة القاهرة في مواكب المدن.. قلت.. القاهرة تذكرني بامرأة فائقة الجمال رائعة الطلعة شعرها ليل طويل وعيونها ضوء لا يخبو وقوامها نخلة شامخة مثمرة علي ضفاف النيل.. تجمع السفهاء علي شعرها وكل سفيه سرق منه خصلة.. وتجمع الحاقدون علي عيونها فأفقدوها البصر وان لم تفقد البصيرة.. وتجمع اطفال الشوارع الجوعي والمشردون علي ثمار النخلة يلقون عليها تلالا من الحجارة فشاخت قبل الأوان وحين ينتصف الليل ويختفي المارة من الشوارع ويهدأ الضجيج تجمع القاهرة شتات مابقي لها من الجمال.. تراها تصفف شعر شجرة نائمة علي ضفاف النيل.. تترك للشمس مساحة علي جبينها الهزيل فيضيء ما بقي فيها من ذكريات الجمال.. وترقب النخلة الوحيدة التي ما زالت تصافح مياه النهر لعلها تستعيد شبابها الضائع.. ينتصف الليل وتعود القاهرة القديمة تتلفت حولها ربما وجدت حبيبين يرسمان إبتسامة علي وجه القمر.. ربما شاهدت شيخا وقورا يؤذن لصلاة الفجر.. ربما أخذت بيد طفل ضائع ليس له وطن أو عنوان.. قبل ان تهبط اشباح النهار المتوحش تخبئ القاهرة وجهها في عباءتها القديمة تشم فيها عطر الحسين وبركات ام هاشم وجلال السيدة نفيسة ومحبة السيدة العذراء.. وساعة جامعة القاهرة وقرآن الشيخ رفعت وحفلات ام كلثوم واحاديث الشيخ شلتوت ومساجلات طه حسين وكبرياء جمال حمدان وتغوص القاهرة وسط الزحام تخفي وجهها عن الملايين الذين يعبرون فيها كل ساعة دون ان يصافحها أحد.. يلقون فيها بقايا اجسادهم المنهكه وارواحهم الشاردة وزمانهم التعيس تمد يدها من بعيد تحمل رفات شهيد.. تضمد جرحا غائرا لا يبرأ.. تعين سيدة عجوزا تتوكأ علي سنوات عمر حزين.. تضحك احيانا وهي تشاهد علي شاشات تلفزيون قديم مهشم وجوه اناس تحفظ أسماءهم تقول انهم كانوا يوما ابناءها ومنذ وزعوا الميراث بينهم وسرقوا ما سرقوا لم تر واحدا منهم.. المزيد من أعمدة فاروق جويدة