تحت الياسمينة في الليل.. نسمة والورد محاذيني الأغصان عليا تميل.. تمسح لي في دمعة عيني جنينة مزينها النوار.. فاحت من ريحة الأزهار فكرتك شعلت النار.. عملت لهليبة في قليبي ظلت تلك الكلمات التي استدعاها الفنان محمد منير من التراث التونسي بلحن الهادي الجويني العذب, وغناها هو بإحساسه المميز, ندندنها ونحن في الطريق إلي أرض الياسمين: شبرا بلولة التابعة لمركز قطور بمحافظة الغربية.. تلك القرية التي تحتل المركز الاول في زراعة الياسمين ليس فقط في مصر, بل علي مستوي العالم, فأصبحت أول مصدر لعجينة الياسمين, متفوقة علي دول حوض المتوسط وجنوب شرق آسيا. ............................................................... من تلك الطينة الخصبة في قلب دلتا النيل, يخرج أكثر من نصف إنتاج العالم من عجينة الياسمين الفاخرة, المكون الاساسي لصناعة أفخم العطور, فضلا عن مستحضرات التجميل ومكسبات الطعم. في شبرابلولة تحديدا ودونا عن باقي قري محافظة الغربية, ترتبط كل البيوت بالياسمين, أطفالا ونساء وشيوخا.. بدءا من زراعته مرورا بجمع الزهر, وانتهاء بالمصنع الذي يستخلص العجينة.. ومن ثم يتم تصديرها- من خلال4 مصانع في شبرابلولة وكوم النجار- إلي فرنسا والولايات المتحدةالامريكية, بل وإلي الهند, التي برغم قيامها بتصدير عجينة الياسمين هي الأخري, إلا أنها تستوردها من مصر لتحسن بها العجينة التي تنتجها, ومن ثم تعيد تصديرها, وهي المعلومة التي أخبرنا بها بزهو, عاطف مهندس بأحد المصانع- اذ أكد لنا أن نوعية الزهور التي تنتجها الطينة المصرية الخصبة, لايضاهيها في جودتها وتركيز عطرها, أي زهرة ياسمين أخري, وهو ما دفع مدام سيسيل كحيل لإنشاء مصنع في القرية في خمسينات القرن الماضي, لاستخلاص عجينة الياسمين, بعد أن نقلت الشجرة من فرنسا.. موطنها الرئيسي.. الياسمين هو عماد حياة الفلاحين هنا, فإذا احتاج أحدهم مبلغا ماليا بشكل عاجل لزواج مثلا, استلف علي الياسمين بتعبير الفلاحين.. أي يحصل علي مبلغ نقدي مقدم مما يعرف بالمجمع- وهو الوسيط بين الفلاحين والمصنع- إلي أن يبدأ الموسم ويتم جني الياسمين, فيورد الفلاح إلي المجمع ما يوازي قيمة المبلغ الذي حصل عليه. شجرة الياسمين رقيقة الأزهار, من الأشجار المعمرة, اذ تعيش في الأرض لمدة قد تصل إلي ثلاثين عاما, أما موسم التزهير, فيمتد لستة أشهر من يونيو حتي ديسمبر من كل عام. إنتاج شبرابلولة في اليوم كما يخبرنا خالد- أحد الفلاحين هناك- يعادل خمسة أطنان من زهور الياسمين, وطن الزهر الذي يورده المجمع للمصنع تصل قيمته إلي عشرة آلاف جنيه, وهذا الطن ينتج ما يتراوح بين2 ونصف الي3 كيلو من العجينة, وكيلو العجينة يتم تصديره مقابل15 ألف دولار, أما بيعه محليا فقيمته15 ألف جنيه.. ويستدرك خالد ضاحكا: بالطبع من يقرأ تلك الارقام سيتخيل أننا نعيش حياة بالغة الثراء, لكن للأسف الفلاحون يحصلون علي الفتات, فنحن نبدأ الجمع من الثانية صباحا حتي الثانية عشر ظهرا, وأحيانا نبدأ مع منتصف الليل, أي أعمل12 ساعة, وفي النهاية أحصل علي7 جنيهات في الكيلو يمنحها لي المجمع من أصل22 جنيها يمنحها له المصنع, في حين أننا كنا نحصل في السابق علي20 جنيها, وللأسف فرض علينا التعامل مع المجمعات, وليس مع المصانع مباشرة.. ويتابع: حاولنا هنا كفلاحين إشهار جمعية للدفاع عن حقوقنا, إلا أن وزارة التضامن تعنتت معنا. ما أن وقفنا نتحدث مع خالد لدقائق, حتي التف حولنا باقي الفلاحين, وخرجت النساء إلي الشرفات الدانية, وتقافز حولنا الأطفال فرحا وطمعا في التصوير.. كانوا خارجين لتوهم من المدرسة, يجيبون قبل أن نسأل, خاصة وأنهم العمود الفقري لعملية جمع الأزهار.. طلت النساء ببشاشتهن وخجلهن, يشكين لنا ضيق الحال, فلم يكن راضيات عن الموسم الذي انتهي مبكرا هذا العام, ليس فقط بسبب برودة الجو التي تؤثر علي حجم الزهرة وشكلها, بل وكما أخبرنا الحاج حسن, امتنعت المصانع عن شراء المزيد من الياسمين واكتفت قبل نهاية الموسم, فاستقر علي الأشجار دون جمع منذ نوفمبر الماضي, وفي الوقت ذاته- وكما أخبرتنا إحدي السيدات التي تعمل هي وأطفالها في الجمع- فإن المجهود المبذول ليس علي قدر الملاليم التي يحصلون عليها, وتتابع: من فرط الحاجة يضطر الفلاحون لجمع الياسمين دون حتي معرفة المقابل, لكن هناك من يرفض ويترك الياسمين علي الشجر. كانت وجهتنا التالية لأحد المصانع التي تعمل في تصنيع العجينة وتصديرها.. واجهنا العاملين في المصنع بما أخبرنا به الفلاحون, فما كان منهم إلا أن نفوا واستنكروا, مؤكدين أن الفلاح يحصل علي15 جنيها في الكيلو, بل وإنه يتعمد إضافة الماء الي الزهر لزيادة وزنه, وهو ما يؤثر علي جودة العجينة النهائية.. لم يعجبنا تبادل الاتهامات, فسألناهم مستنكرين: ماذا لو امتنع الفلاحون عن الجمع وذبلت زهور الياسمين, فهل تتمكن المصانع من مواصلة عملها, أم ستخسر وتغلق أبوابها, ومن ثم تخسر مصر ترتيبيها الأول في تلك الصناعة ؟! كانت إجاباتهم مؤيدة للنتيجة, لكن ما باليد حيلة, فهم مجرد عمال, والمسئولية تقع علي أصحاب المصانع.. تجولنا في المصنع وتعرفنا علي مراحل الحصول علي العحينة, وهي بسيطة, تبدأ بالاستخلاص من خلال تمرير غاز الهيكسان في الأواني الضخمة التي تحمل أزهار الياسمين, ومهمته فصل العطر عن الزهرة, ثم تأتي مرحلتي التركيز الابتدائي ثم النهائي, إلي أن يتم الحصول علي العجينة النهائية.. مصانع الياسمين في غير موسمه, تعمل أيضا في استخلاص العطور والزيوت من أزهار البنفسج والقرنفل والعتر واللارنج, بنفس الطريقة.. لكن يظل الياسمين هو الأصل.. إلا أن صدمتنا من حالة الشد والجذب بين الفلاحين وأصحاب المصانع, أصابتنا بالقلق علي صناعة تدر دخلا مهما, نخشي خسارته, إذا ما استمر إحساس الفلاح بالظلم والاستغلال من قبل المصنع.. واستمر الأخير في اتهام الفلاح بالغش والتحايل!! لنفيق في النهاية علي تقدم دول أخري علي مصر, بعد أن كانت متربعة لسنوات طويلة علي عرش الياسمين..