سهيل ادريس ومجلة الآداب والمعجم الذى يحمل اسم المنهل ودار الآداب هى أسماء متعددة، لكنها تشير إلى وتعبر عن شخصية أساسية واحدة هى شخصية سهيل ادريس. ولعل الفصل بين أى من هذه الأسماء والاسم الأساسى فيها سيكون فعلاً تعسفياً. إلا أن سهيل ادريس هو أديب فى الدرجة الأولى، أى روائى ، وكاتب قصة، وناقد أدبى. وهو واحد من أكثر الذين ترجموا عن الفرنسية روايات ومسرحيات وسيراً ذاتية وكتب نقد لكبار الكتاب، وفى مقدمتهم جان بول سارتر. لكن الذين يعرفون سهيل ادريس معرفة كاملة وشاملة يرون اليه أكثر من روائى وكاتب قصة. اذ هو توقف عن الكتابة فى هذا الجنس الأدبى منذ زمن طويل، وتفرغ للعمل الثقافي، نشاطاً متعدداً، ومنابر متعددة، وموقعاً فى هيئات ثقافية متعددة. ولذلك فان أهل الثقافة ينظرون اليه، قبل صفته التى يحبها كمبدع رواية وقصة وحتى كمترجم لأعمال أدبية كبيرة، كمنشئ لواحدة من أهم المجلات الأدبية العربية (الآداب) وكمؤسس لدار نشر (دار الآداب) هى واحدة من أهم دور النشر العربية، وكصاحب معجم («المنهل» عربي-فرنسى وفرنسي-عربي) هو من أهم القواميس. وهى لعمرى منجزات كبيرة تعطى سهيل ادريس مكانته المتميزة فى الحياة الأدبية العربية. ورغم أننى لا أزعم لنفسى القدرة والكفاءة والمهمة التى هى للنقاد الأدبيين، الا أنني، كقارئ وكباحث عن المعرفة وكمثقف بالمعنى العام للكلمة، أسمح لنفسى بأن أساهم فى تقديم قراءتى لسهيل ادريس ولسيرته الأدبية والثقافية عموماً، مستنداً فى ذلك الى معرفتى به التى امتدت الى خمسة وخمسين عاماً على وجه التحديد. وكانت بداية معرفتى به فى الجامعة اللبنانية فى العام الدراسى 1952 1953، عندما كنت طالباً فى فرع الآداب فى دار المعلمين العليا، وكان هو أستاذاً للأدب المقارن فيها، الى جانب مجموعة من كبار أساتذة الأدب، الذين كنت مع زملائى الطلاب نتعلم منه ومنهم ومن ارشاداتهم ومن ثقافتهم كيف نشق طريقنا الى عالم الأدب. ولد سهيل ادريس فى عام 1925 فى بيروت من أب يقال أنه مغربى الأجداد، ومن أم تنتمى الى أسرة بيروتية عريقة. كان الأب امام مسجد. لكنه كان يمتهن التجارة أيضاً. تلقى سهيل ادريس دراسته الابتدائية فى كلية المقاصد الاسلامية فى بيروت. فى عام 1936 اختاره مدير الكلية مع عدد من زملائه من الطلاب للالتحاق بكلية «فاروق الشرعية»، نسبة الى الملك فاروق الذى كان ينفق على الكلية. أصبح سهيل فى هذا المعهد الدينى شيخاً. وارتدى الزى الدينى طوال خمسة أعوام. لكنه تخلى عن زيه الدينى بعد تخرجه من الكلية فى عام 1940. أنهى دراسته الثانوية فى عام 1942. والتحق فى عام 1943 بمعهد الحقوق التابع لجامعة القديس يوسف اليسوعية فى بيروت. لكنه لم ينجح فى دراسته بسبب اضطراره الى العمل لكسب رزقه، نظراً لتدهور الوضع الاقتصادى للعائلة. فتخلى عن دراسة الحقوق. وبدأ فى مزاولة العمل الصحفى فى جريدتى «بيروت» و«بيروت المسا»، ثم فى مجلتيّ «الصياد» و»الجديد». واستمر يعمل فى الصحافة من عام 1943 حتى عام 1949. وكان فى تلك الفترة ينمّى ويغذّى مواهبه الأدبية. وبدأ ينشر فى المجلات بعض أبحاثه الأدبية، وبعض قصصه القصيرة، أولاً فى مجلتيّ «الكشوف» و«الأديب» اللبنانيتين، ثم فى مجلتيّ «الصباح» و«النقاد» السوريتين. ترك سهيل العمل فى الصحافة فى عام 1949 وسافر الى باريس للاعداد للدكتوراه فى الأدب المقارن التى حصل عليها فى عام 1952. وكان موضوعها «القصة العربية الحديثة والتأثيرات الأجنبية فيها من عام 1900 حتى عام 1950». أنشأ بعد عودته الى بيروت مجلة «الآداب» فى عام 1953 بالاشتراك مع صديقيه بهيج عثمان ومنير بعلبكى صاحبيّ «دار العلم للملايين» للنشر. وفى العام ذاته عيّن أستاذاً للأدب العربى الحديث فى الجامعة اللبنانية التى كانت قد أنشئت فى عام 1951. كما عيّن أستاذاَ للترجمة والتعريب والنقد فى كلية المقاصد الاسلامية فى بيروت. فى عام 1953 أنشأ مع صديقيه الأديبين رئيف خورى وحسين مروة جمعية «القلم المستقل» التى انشقّت عن جمعية «أهل القلم» بسبب خلافات. وفى عام 1956 استقل بمجلة «الآداب» عن شريكيه السابقين فيها. وكان أبرز نشاطه الثقافى فى تلك الفترة يتم من موقعه كمسئول عن العمل الثقافى فى جمعية المقاصد الاسلامية. اذ دعا عدداً من المثقفين العرب لالقاء محاضرات ومناظرات فى الجمعية.. وكان من أهم المناظرات التى تم تنظيمها تلك التى جرت بين طه حسين ورئيف خوري، فى دعوة الأول، طه حسين، الى الأدب من أجل الأدب، أى تحرير الأدب من أية وظيفة سياسية أو اجتماعية، وفى رد الثاني، رئيف خوري، بالتأكيد على أن الأدب كان مسؤولاً، وأن وظيفته هى فى خدمة الانسان والحياة. فى عام 1956 أنشأ سهيل ادريس «دار الآداب» للنشر بالاشتراك مع صديقه الشاعر نزار قباني، الذى اضطر فى عام 1961 للاستقالة من الشراكة فى الدار بسبب تعارض وجوده فى هذا النشاط مع وظيفته كدبلوماسى سوري. انتخب سهيل ادريس فى عام 1967 أميناً عاماً مساعداً لاتحاد الأدباء العرب وأميناً للجنة اللبنانية لكتاب آسيا وأفريقيا. وشارك فى عام 1968 مع كل من المفكر قسطنطين زريق والأديب منير بعلبكى والشاعر أدونيس والباحث الاجتماعى جوزيف مغيزل «اتحاد الكتاب اللبنانيين». وانتخب أميناً عاماً لهذا الاتحاد ثلاث مرات فى فترات مختلفة. هذه هى باختصار سيرة هذا الأديب اللبنانى المتعددة ميادين نشاطه سهيل ادريس. وهى تشير فى محطاتها الرئيسية الى شغفه بالنشاط الثقافى العام، والى أهمية المنابر الثقافية التى أنشأها، وحوّلها بجهده الخاص الى مراكز مهمة لالتقاء المثقفين، والى مراكز مهمة لنشر وتعميم ابداعاتهم فى ميادينها المختلفة. ويجمع المثقفون العرب، والأدباء منهم على وجه الخصوص، على تقييم الدور الكبير الذى لعبته ومجلة «الآداب» باشرافة منذ تأسيسها فى نشر نتاج الأدباء العرب من شتى البلدان، وفى السجالات المهمة التى تمت على صفحاتها وأغنت الثقافة العربية. صحيح أنها لم تكن لوحدها تقوم بهذا الدور، اذ كانت قد سبقتها الى هذا الدور كل من مجلة «المكشوف» لمؤسسها فؤاد حبيش ومجلة «الأديب» لصاحبها ألبير أديب، ومجلة «الطريق» العريقة لمؤسسها أنطوان ثابت، ومجلة «الثقافة الوطنية» التى ولدت قبل عام واحد من صدور مجلة «الآداب»، وكان يشرف على تحريرها حسين مروة ومحمد دكروب. ثم نشأت فى الستينيات مجلة «شعر» التى كان يشرف على تحريرها الشاعر يوسف الخال. ومعروف أن اتحاد الكتاب اللبنانيين قد تميز بنشاط بارز فى الفترة التى كان فيها سهيل ادريس فى موقع الأمانة العامة. لكنه لم يكن وحده صاحب هذا الدور. فجميع الذين انتخبوا الى هذا الموقع فى الفترة التى سبقت اندلاع الحرب الأهلية لعبوا أدواراً مشابهة لدوره. غير أنه من الضرورى فى الحديث عن سهيل ادريس ألاّ ننسى المعجم الذى انخرط منذ وقت مبكر فى العمل على انجازه مع صديقه العلاّمة الشيخ صبحى الصالح. فالمنهل هو عمل علمى كبير. ويشترك مع سهيل ادريس فى هذا العمل صديقه منير بعلبكى الذى أنشأ معجماً آخر باسم المورد. وكل من المعجمين هو عمل علمى يستكمل أعمالاً من هذا النوع لآخرين سبقوهما فى أزمنة مختلفة. وكان الشيخ عبد الله العلايلى فى عمله الضخم الذى يحمل اسم «المعجم» هو الأول من بين الذين انخرطوا بجهد علمى كبير فى هذا الميدان. لكن العلايلى لم يتصد لقاموس عربى أجنبى، بل هو تصدى لمهمة ذات صلة باللغة العربية وبفقهها، وبقدرتها على التعامل مع كل منجزات العصر العلمية، ولو بصعوبة من النوع الذى يمكن التغلب عليه، كما أثبت ذلك الشيخ العلايلي. وسفر العلايلى هو من أهم ما خلفه هذا العلاّمة الكبير فى اللغة والتاريخ والفقه الدينى المستنير للمكتبة العربية ولثقافتنا العربية بعامة. من الطبيعى ونحن نتحدث عن سهيل ادريس، هذا المثقف العربى المميز، أن نتذكر المرحلة الأولى التى تقدم فيها كروائى. واذ تعتبر ثلاثية سهيل ادريس «الحى اللاتينى» و «الخندق الغميق» و»أصابعنا التى تحترق»، هى التى أدخلته فى نادى الروائيين اللبنانيين، وهذا حقه وهو صحيح، الا أن ثمة اجماعاً على أن دوره الثقافى الأساسى انما يتمثل خصوصاً فى المنابر الثقافية التى أسسها، وفى المنابر الثقافية التى شغل فيها مواقع قيادية. ومعروف أن رواية «الحى اللاتيني» هى روايته الأولى. وقد صدرت بعد عودته من باريس بعام واحد، حاملاً لقب دكتور فى الأدب المقارن. وهى الرواية التى يروى فيها تجارب حياته فى باريس فى الحى اللاتينى عندما كان ولا يزال يعج بالجامعات والمكتبات والمقاهى الثقافية. وفى ذلك الحى بالذات تقع جامعة السوربون. وهو الحى الذى يتقاطع فيه شارعان من أهم الشوارع الثقافية فى باريس، شارع سان ميشال وشارع سان جرمان. وفى مقاهى هذين الشارعين كان يوجد كبار كتاب فرنسا، ومن بينهم جان بول سارتر. وكانت تجرى اللقاءات والسجالات والتظاهرات الثقافية المشهورة والمشهودة. لكن الأساسى فى رواية «الحى اللاتيني» هو مغامرات صاحبها، بأنواعها المختلفة كطالب عربى فى باريس. وكانت مغامراته النسائية من أهم تلك المغامرات. أما الرواية الثانية، «الخندق الغميق» فهى التى يروى فيها سهيل ادريس سيرة حياته الأولى قبل ذهابه الى باريس. وقد صدرت فى عام 1958. وأهم ما فى هذه الرواية كونها تصف حياً عريقاً وقديماً من أحياء بيروت، وتحكى فصولاً جميلة من تقاليده الشعبية. ويستكمل فى رواية «أصابعنا التى تحترق» سيرة المثقف العربى الشاب الذى هو، فى تحولاته الفكرية والسياسية والثقافية، الشاب المتمرد الشديد الطموح للعب دور فى بلاده فى الاتجاه الذى يحقق لها حريتها وتقدمها ووحدتها القومية. لمزيد من مقالات كريم مروَّة