أنا من جيل عاصر ثورة 23 يوليو 1952، وعاش صعودها العظيم وانكسارها أو هزيمتها المدوية سنة 1967، كما شاهد الانقلاب عليها فى الزمن الساداتى الذى أدى إلى المزيد من الانحدار فى زمن مبارك الذى استمر ثلاثين عاما بكل ما فيه من خير قليل وشر كثير. وكان من حظى الطيب أن أشهد ثورة الخامس والعشرين من يناير التى جعلتنى أستعيد حلم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لكن أحلام الخامس والعشرين من يناير وأدتها كوابيس كثيرة، قضت على أمانيها، واستبدلت بأحلامها عن الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية كوابيس نقائضها، كما استبدلت بحلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة واقع مشروع دولة دينية، تقوم على التحالف بين الإخوان والسلفيين، وتسعى إلى القضاء على الهوية الوطنية والتفريط فى التراب الوطني، فأضاعت حلم العدل الاجتماعى والحرية السياسية، وضربت عرض الحائط بالدستور ولوازمه، فكانت النتيجة أن تولدت انتفاضة شبابية، مثلتها حركة تمرد. وعاد جيش مصر إلى ميراثه الوطنى الذى تأسس مع ثورة 23 يوليو 1952، فأصبح الشعب والجيش يدا واحدة، فى الثلاثين من يونيو، وتمكن الاثنان من إزاحة حكم الإخوان البغيض، وصنع الشعب زعامة السيسى الوطنية، كما صنع الشعب نفسه زعامة عبد الناصر القومية. وما أزال أذكر الفرحة التى ملأتني، وأنا أذوب كقطرة ماء وسط ملايين المصريين فى ميدان التحرير، والطرق المؤدية إليه والمتفرعة منه، فى موازاة ملايين أخرى عديدة أمام الاتحادية وحولها. ولم أذق طعم النوم مع الملايين مثلى إلا بعد أن أعلن السيسى ومعه ممثلو القوى الوطنية خريطة الطريق لتحقيق حلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى تعنى بالضرورة الدولة الوطنية المصرية القائمة على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وتعلقت أحلام المصريين جميعا بعبد الفتاح السيسي، مبايعين إياه فى مظاهرات لا نجد لها مثيلا فى التاريخ الحديث وحتى القديم. وأشهد أنى لم أر طوفانا من البشر تأييدا للسيسى إلا الطوفان البشرى الذى كنت فيه يوم جنازة عبد الناصر العظيم، رغم كل أخطائه. وأذكر أننى كنت فى برنامج تليفزيونى مع الصديق عماد أديب. وكان الشعب المصرى يطالب الفريق أول السيسى بالترشح لرئاسة الجمهورية، وكان يبدى ممانعته فى ذلك. وسألنى عماد أديب عن رأيي، فقلت: إن الشعب المصرى سيجبر السيسى على قبول الترشح لمنصب الرئاسة رغما عنه وعن غيره، فإرادة الشعب لا ترد، لا منى ولا من السيسى ولا حتى غير السيسي، وقلت: إن السيسى لابد أن يقبل احتراما لهذه الملايين التى أنزلته منزلة جمال عبد الناصر، والتى ظلت على حبها لعبد الناصر ووفائها له، رغم كل الحملات لتشويه صورته، وكل محاولات السادات وزمنه الانفتاحى السداحى مداحى لتشويه عبد الناصر وزمنه على السواء. ولكن عادت صور عبد الناصر مع تمرد الملايين التى رفعت صوره كتعويذة سحرية للإنقاذ من زمن الإخوان الذى أسقطوه، وأملا فى أن يكون السيسى زعيما آخر مثل عبد الناصر، يحقق للفقراء أحلام العدل الاجتماعى التى تعنى الخبز لكل جائع، فتضع العدل بديلا عن الفقر والجهل والبطالة والجوع والنوم فى العراء، أو حتى فى المقابر، فى عالم من الموتى الأحياء والأحياء الموتي، وتقرن العدل بالحرية فى كل مجالاتها السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية. ولكن كان المثقفون الذين ينتسبون إلى الفقراء الذين يمثلون أغلبية الشعب المصرى يرون أن زمن عبد الناصر زمن مختلف، له شروطه اليوسياسية المناقضة تقريبا، فجمال عبد الناصر ولد فى يناير 1918، أى قبل عام واحد من ثورة 1919 التى رسخت فى وجدان أبناء جيله شعارات من قبيل مصر للمصريين والاستقلال التام أو الموت الزؤام ووحدة الهلال مع الصليب والدين لله والوطن للجميع. وتثقف مثل أبناء جيله على أيدى كبار المثقفين الذين تأثروا بشعارات الثورة الفرنسية التى أضافوا إليها شعارات ثورة 1919 وأحلامها عن استقلال الوطن وحرية المواطنين والوطن على السواء، وتحرير المرأة والمساواة بينها والرجل فى الحقوق والواجبات، والطموح إلى بناء دولة مدنية عصرية، يحكمها الدستور والقانون، محققة العدل الاجتماعى والحرية لكل المواطنين والمساواة الكاملة بينهم، فضلا عن بناء اقتصاد وطنى متحرر من التبعية. وكان من أعلام هذه الثورة وقياداتها سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وغيرهم فى المجال السياسي، إضافة إلى طلعت حرب فى مجال الاقتصاد الوطني، ومفكرين وكتاب من أمثال أحمد لطفى السيد وسلامة موسى وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، وأم كلثوم وعبد الوهاب، وقبلهما سيد درويش. وكان من شباب الثورة أبناء المدارس الحديثة ومشايخ الأزهر من الشباب الثائر الذين كان منهم الشيخ محمود شلتوت الذى قبض عليه فى أحداث الثورة، وامتد به العمر إلى أن عينه عبد الناصر شيخا للجامع الأزهر سنة 1958 بعد حرب السويس سنة 1956، تلك الحرب التى خرج منها عبد الناصر زعيما قوميا بكل معنى الكلمة. وكان هؤلاء المفكرون والقادة السياسيون هم صناع المناخ الثقافى والسياسى الاجتماعى الذى نضج فيه وعى عبد الناصر وتعلم فيه، وتكونت أفكاره عن الوطن والوطنية ومعانى الحرية واستقلال الوطن ومصر للمصريين وحتى الاقتصاد الوطني. ولم يخل الأمر من التأثيرات الأدبية، فكان عبد الناصر من محبى الأدب مثلما فعل أنور السادات وثروت عكاشة وغيرهم من الضباط الأحرار. أما الرئيس عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي، فقد ولد فى التاسع عشر من نوفمبر 1954. يعنى أنه كان فى السادسة عشرة من سنوات عمره عند وفاة عبد الناصر وتولى الرئيس الأسبق محمد أنور السادات (ديسمبر1918- أكتوبر1981) الذى قام بتغيير مسار التوجه السياسى الاجتماعى الفكرى الاقتصادى لعبد الناصر والانقلاب على الناصرية والناصريين، فسعى إلى تأسيس دولة الرفاه فى ظل انفتاح اقتصادي، تحول إلى انفتاح سداح مداح كما قال أحمد بهاء الدين، وحاول تأسيس دولة العلم والإيمان التى ضاع فيها العلم، وتحول الإيمان إلى تعصب ديني، بعد أن تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسي، الأمر الذى أدى إلى تصاعد نفوذ تيارات الإسلام السياسى التى لم تتردد فى اغتياله عندما حاول نقض التحالف معها. ونجحت بالفعل فى اغتياله فى السادس من أكتوبر 1981. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسى فى السابعة والعشرين من عمره عندما اغتيل السادات وتولى محمد حسنى مبارك الرئاسة خلفا له، بعد أن عينه السادات نائبا له فى أعقاب انتصار أكتوبر 1973. ولذلك كانت المؤثرات التى تأثر بها الوعى الاجتماعى والثقافى والسياسى للرئيس عبد الفتاح السيسى مختلفة بالكلية عن المؤثرات التى خضع لها وعى السادات فى تحولات وعى عبد الناصر فى رحلته ما بين قيم التحرر الوطنى إلى قيم العدل الاجتماعى أو الاشتراكية العربية التى تظل شيئا مختلفا عن الاشتراكية الديمقراطية التى حاول رفعت المحجوب أن يؤصلها للسادات، لكى يحول بينه والسقوط الكامل فى شباك القطط السمان. لكن انتهى الأمر بالسادات إلى نهايته المأساوية التى كانت إعلانا عن انفجار بركان عنف التعصب الدينى الذى سرعان ما تحول إلى إرهاب لا يبقى على شيء. ولذلك كان المناخ الفكرى والثقافى الذى اكتمل فيه وعى السيسى مختلفا كل الاختلاف عن المناخ الذى نضج فيه وعى عبد الناصر. لمزيد من مقالات جابر عصفور