حتما أن هذا العالم مجنون. لم يكن كذلك فى أى وقت من تاريخ البشرية. حتى فى وقت الحروب العمياء، أو الأوبئة المتفشية الكاسحة لكل البشر بدون تمييز، حتى فى وقت التوحش وأكل لحوم البشر، حتى فى وقت عصر الديناصورات أو غيرها من أزمنة لم يكن للانسان بها سيطرة على الحيوانات المفترسة أوحتى فى عصر البراكين وتمرد الطبيعة. وقت كل ذلك وغيره لم تكن الدنيا بهذه الدرجة من الجنون. لم يكن العالم متناقضا ومحيرا الى هذا الحد. كل تلك الاختراعات والامكانات التى ابتكرها الانسان ووصلت الى حدها الاقصى تربك الانسان بدلا من أن تريحه، وتغرقه بمعلومات لا أول لها ولا آخر، فيغوص فى اللا معنى بدلا من فك شفرة العالم. حجم المعلومات التى وصل لها الانسان بالقرن العشرين أكثر مما اكتشفه طوال تاريخ البشرية. لا مبالغة اذن اذا أطلق على زماننا اسم عصر ثورة المعلومات، ويا ليتها ثورة العقل أو ثورة الجمال، لكنها ثورة اغراق بالمعلومات وفى قول آخر هى ثورة تكنولوجية. واليوم لم تعد ثورة فقط بل اصبحت طاعونا أو بركانا أو تسونامى. لقد اجتمعت فى التكنولوجيا بلا شك كل أمراض الكون وكل معجزاته.. انظر لعلاقة الانسان بالتليفون المحمول خاصة فى بلد مثل مصر. ان العلاقة بينهما هى علاقة عبودية بكل ما تعنيه الكلمة. الكثير من الناس فى بلادنا تعيش والتليفون المحمول مرتبط بكل أنشطة حياتها. لا تستخدمه فقط للمكالمات التليفونية. بل أصبح بديلا للحب والعلاقات الانسانية. لى صديق هنأ ابنه بعيد ميلاده برسالة تليفون رغم ان هذا الابن فى الغرفة المجاورة. واعرف الكثير من النساء التى تسعد برسائل حب على تطبيق الواتس اب أكثر مما يهمها أن تسمع نبض المشاعر وجها لوجه. أما المراهقون والشباب، فلا حياة لهم بدون التليفون المحمول. حضرت أكثر من حفل بمهرجان الموسيقى العربية الاخير، وكان يقطع الاندماج اضواء شاشات المحمول التى يركز بها بعض الشباب والمراهقين فى عز اندماج جميع المتفرجين مع الغناء الرائع. قصص الارتباط بالمحمول لا تنتهى. فالمرضى فى غرفة الانعاش يسألون على تليفوناتهم بمجرد ان يفيقوا. والعدد متزايد كل يوم لمن ماتوا أو أصيبوا بحادث مروع أثناء تصفح المحمول. أصبحت مرعبة حقا رؤية قادة السيارات وهم مشغولون بإرسال رسائل نصية أثناء قيادتهم للسيارة فى زحام القاهرة. لقد تحول الأمر الى ادمان اجتماعى خطير ومتزايد. ادمان بكل ما للادمان من مظاهر استحواذية واستلابية. لكنه ادمان ناعم متسلل خبيث قادر أن يتمكن منا بكل قوة وبدون ان نلحظ اختراقه لوعينا. ما ان تبدأ فى استخدام تطبيقات المحمول مثل فيس بوك وواتس اب وتويتر وانستجرام وغيرها حتى يزيد الادمان شيئا فشيئا الى درجة عدم القدرة عن الاستغناء عنهم. كل شئ فى حياتنا صغر ام كبرشأنه أصبح مرتبطا بالتليفون المحمول. كل أمور حياتنا اليومية. هل نحن ضعفاء الى هذا الحد، أم ان التكنولوجيا أصبحت جبارة الى هذا الحد؟ كل تطبيق من التطبيقات التى ذكرناها هنا وراءها العديد من العقول العبقرية. وهم يطورون فى امكانات تطبيقهم الى الدرجة التى لا يستطيع الانسان العادى المقاومة. امكانات جديدة بالتطبيق كل يوم وتحديث مجانى وألوان وجرافيك وخدمات مجانية. كله مجانى مجانى. لكننا ندفع الكثير من انسانيتنا وعقولنا وصحتنا ومستقبلنا. كل خدمات المحمول مجانية أو برسوم بسيطة، لان أرباح تلك الشركات تأتى بالاساس من المعلنين الذين يتصارعون لرعاية تلك التطبيقات بسبب العدد الخرافى من المشتركين الملتحق بها.الفيس بوك الذى اصبح المتحكم الاكبر فى حياة البشر بلغ عدد المشتركين به مليارا ونصف المليار انسان. والشركة لا تكتفى بذلك وتريد ان ترفع الرقم الى عدة مليارات أخرى. لذلك أعلن مارك زوكربرج مؤسس الموقع عن عزم فيسبوك اطلاق قمر صناعى العام القادم سيوفر خدمات الانترنت فى مناطق نائية من افريقيا. والمشروع جزء من مشروع انترنت دوت اورج الذى اطلقته شركته لتوصيل الانترنت الى اماكن بالعالم ليس بها بنية اساسية تكنولوجية، فقرر استخدام طائرات بدون طيار واقمار صناعية لتقديم خدمات انترنت بأسعار زهيدة. ولم يعد سرا أن كل أجهزة المخابرات تستطيع بكل سهولة اختراق خصوصية كل البشر على كوكب الارض بفضل تطبيقات المحمول ومنها سكايب، فايبر، جى بي اس وغيرها. كلها تصلح كأدوات مراقبة وتتبع لخطواتك اينما كنت. لو يعرف كل مستخدم ادمن التليفون المحمول ان حياته وصوره ورسائله مكشوفة ومنتهكة امام كل تلك الشركات وأجهزة المخابرات، لفكر الف مرة قبل أن يسلم نفسه وخصوصيته طواعية لهم. ان الامر اشبه بأن تترك فريقا من المتفرجين غير الأمناء يدخل غرف نومك وخزانة اسرارك طواعية. لكن هل هناك بديل للخلاص الجماعى والتحرر من اسر التليفون المحمول وبرامجه قبل أن تفسد حياتنا بسببه أكثر مما فسدت. مؤكد أن الانسان طوال رحلة حياته على الارض تخلص من الكثير من المستحوذات التى كادت تنهى تجربته فى الكون. العلاج ككل علاج ادمان يبدأ من نفس كل انسان. يحتاج كل منا أن يعترف أن ثمة خطر اداهما فى التليفون المحمول يصل لدرجة تدمير حياتنا. وبعد ذلك تأتى مرحلة البدائل بوضع خطة للانشطة الجميلة التى نمارسها كبديل للوقت الذى كنا نقضيه فى مطالعة المحمول وتطبيقاته. المجال مفتوح بألف وألف اقتراح، لكن الجانب التعويضى الاكثر يكمن فى تمضية وقت أكثر مع الاحباء والاصدقاء.من الذهاب للنادى للخروج لاماكن رائعة مثل الحدائق وكورنيش النيل الموجود بأغلب ربوع مصر. حتى مجرد المحادثة وجها لوجه مع المقربين منا سينقذنا من هذا الادمان أو حتى الذهاب للمقاهى كفيل بذلك. كل يبحث عما ينقذه. لمزيد من مقالات احمد عاطف