وصلت أعداد النازحين من سوريا باتجاه أوروبا عبر الأراضى التركية إلى معدلات استثنائية جعلت القارة العجوز تستقبل أحيانا أكثر من ستة آلاف لاجىء فى اليوم الواحد باجمالى ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون حتى اكتوبر من العام الحالى! أعربت تقارير أمنية تم استعراضها مؤخرا فى اجتماعات المفوضية الأوروبية لمناقشة أزمة تدفق اللاجئين عن قلق متزايد إزاء تعمد السلطات التركية تسهيل دخول اللاجئين السوريين الى البلاد حيث لا تشترط وجود «تأشيرة» بحوزتهم كما تغض الطرف عن تحول مدن مثل أزمير وبودروم وأسوس الى مراكز رئيسية للهجرة عبر البحر الى اليونان من خلال عصابات تهريب تتخذ من الفنادق والمقاهى التى تنتشر على الشاطيء مقرا علنيا لنشاطها المجرم دوليا والذى يندرج تحت اطار «الإتجار بالبشر» وترسلهم ليلاقوا حتفهم فى قوارب تهريب الى جزر يونانية لا تبعد سوى مسافة ساعة ونصف! «أبو وليد» لاجيء سورى التقته «الأهرام» بعد وصوله بأيام قليلة الى بروكسل فى مخيم «حديقة ماكسمليان» شمالى العاصمة ضمن مئات الناجين من رحلة الموت عبر الخط الذى بات الأشهر دوليا: اليونان صربيا النمسابلجيكا. يقول الكهل الخمسينى: لم أصدق فى البداية أن الأتراك سوف يدعوننا ندخل أراضيهم بتلك السهولة دون أن يطلبوا أية أوراق، وما إن وطأت أقدامنا أزمير حتى شعرت أننى بسوريا فالكل هناك سوريون وتجارة التهريب على قدم وساق. لكن الشيء المريب الذى استوقفنى أنا والمجموعة التى كنت بصحبتها هو أن السلطات التركية أغلقت تماما الطرق البرية التى تربط بينها وبين اليونان وبلغاريا وأخضعتها لاجراءات أمنية مشددة بينما تركت الطريق البحرى شديد الخطورة المؤدى الى اليونان مفتوحا أمامنا على مصراعيه، و لم تفعل شيئا وهى ترى مئات الزوارق المطاطية الخفيفة تنطلق يوميا باتجاه الجزر اليونانية والواحد منها يحمل خمسين لاجئا بينما حده الأقصى لايتجاوز من عشر الى خمس عشر راكبا! وبنبرة واهنة يكمل الكهل الخمسينى قائلا: كنا نعرف أن البعض فى تركيا يلقى بنا الى الموت لغرض فى نفسه ولكننا لم نكن بصراحة نملك رفاهية التساؤل وكل ما كان يشغلنا هو الهرب من جحيم الحرب والوصول الى الشواطيء الأوروبية بأى ثمن. ويورد «أبو وليد» ملاحظة اخرى شديدة الأهمية تتمثل فى أن السلطات التركية تغض الطرف كذلك عن ازدهار سوق تزوير جوازات السفر السورية «علنا» حيث يلجأ كثير من الافغان ومواطنى شمال افريقيا الى انتحال صفة سوريين ليصبح لهم الأولوية عند الدخول الى الاراضى الاوروبية نظرا لفداحة الأزمة الانسانية بسوريا. وتفسر هذه الملاحظة ما أعلنت عنه السلطات الألمانية من أن ثلث من دخلوا أراضيها يحملون جوازات سورية مزورة. وكانت وكالة «فرونتكس» المعنية بحماية حدود الاتحاد الأوروبى حذرت بشدة من انتعاش مكاتب تزوير جوازات السفر السورية بدول الجوار السورى لاسيما تركيا. مصادر دبلوماسية مطلعة فى بروكسل أكدت ل«الأهرام» أن أنقره تتعمد إيجاد أزمة انسانية على أبواب اوروبا من خلال تسهيل رحلات زوارق الموت بهدف ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهى من ناحية تريد ممارسة أكبر من الضغوط على قادة الاتحاد الاوروبى من خلال تصدير الكارثة الى عقر دارهم فتجد عواصم أوروبا نفسها مضطرة الى الاستماع الى السيناريوهات التركية لحل الصراع فى سوريا، ومن ناحية أخرى تريد أن تثبت للغرب أنها الحليف القوى الذى لا يمكن الاستغناء عنه عند مواجهة الازمات الكبرى بالشرق الأوسط، فضلا عن رغبتها فى الفوز بأكبر قدر من كعكة مليارات اليوروهات التى بدأت تخرج من خزائن الغرب لمساعدة دول الجوار السورى على ضبط حركة اللاجئين، وهو ما تجلى واضحا فى اعلان الاتحاد الاوروبى تقديم حزمة مساعدات تجاوز ثلاثة مليارات يورو بالفعل الى الأتراك. وأشارت المصادر الى أن الطموح التركى فى هذا السياق يستهدف اقناع الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبى بأن لا حل جذرى لأزمة تدفق النازحين سوى باقامة «منطقة آمنة» شمال سوريا بحجم ثمانين كيلومترا تحتوى على حظر جوى وقوات على الارض بتمثيل أمريكى أوروبى وأنظمة تحكم وسيطرة بحيث تلعب أنقرة دور البطولة المطلقة فى هذا السيناريو. ومن الواضح أن الأوروبيين حاسمون فى رفض هذا التصور للحل حيث يدركون أن الهدف الأساسى من وراء طرحه هو اطلاق يد الجيش التركى فى شن حرب موسعة على عناصر حزب العمال الكردستانى تحت غطاء دول، أى توظيف الأزمة السورية لصالح الأجندة الداخلية للحزب الحاكم. ورغم الإلحاح التركى على أن ضغوط ازمة الاجئين تنتهى تلقائيا باقامة تلك «المنطقة الآمنة» إلا أن الأوروبيين من ناحيتهم لا يتوانون عن رفض هذا التصور جملة وتفصيلا، تارة تلميحا وأخرى تصريحا، ولعل آخرها تصريح دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبى الذى قال فيه إن الطرح التركية باقامة منطقة حظر طيران شمال سوريا ليس على أجندتنا.