البداية الحقيقة للسجل العسكري المصري المشرف كانت مع قرار تحرير الإرادة المصرية بتأميم قناة السويس عام 1956 ، والذي شكل العامل الأساسي في الصدام والصراع بين الجغرافيا والتاريخ عبر أهم ممر مائي حيوي في العالم، وربما كان ذلك دافعا لتكالب الدول العظمى على مصر لحفظ ماء الوجه بإعادة السيطرة على القنال. وهو ما دفع العالم في31 أكتوبر 1956 - قبل 59 عاما - لتسميتها ب "حرب السويس" التي كسرت شوكتها على صخرة الجيش والشعب المصري ، ما ممهد لوقوع النكسة في سيناء 1967، وأظنه كان صداما طبيعيا، بحكم الجغرافيا، فهى حروب تضمن مصالح الغرب من ناحية، وتضمن أمن إسرائيل من ناحية أخرى. ولهذا فقد ارتبطت قناة السويس على مدار تاريخها الطويل بنضال الشعب المصري من أجل الحرية والتقدم، حتى ليعد تاريخها القديم والحديث فصولًا متصلة من التضحية والفداء بالروح والدم والعرق، فعلى حد قول الراحل العظيم الدكتور جمال حمدان: "إن قناة السويس هى بالدرجة الأولى سلاح سياسي واستراتيجية حرب تصل انعكاساتها وإشعاعاتها إلى كل المحيطات والبحار السبع، وتمثل موقعا حاكما في استراتيجية الصراع البحري العالمي، مثلما تشكل عقدة نووية في الملاحة والتجارة الدولية"، ولهذا فإنه اعتبارا من يوم السادس والعشرين من يوليو 1956 عندما أعلن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، في ميدان المنشية بالإسكندرية، قرار التأميم، ارتبطت القناة بالصراع العربي الإسرائيلي بحكم ارتباطه بضوابط وتفاعلات معقدة وانعكاسات وظلال مستمدة من لعبة السياسة الدولية واستراتيجية القوى العالمية. ونظرا لأن قرار التأميم لم يكن متوقعا سواء على مستوى الداخل أو الخارج ، خاصة أن السنوات المتبقية على انتهاء الامتياز كانت قليلة ، فقد استقبل العالم ذلك بدهشة شديدة، لأن قرار التأميم لم يكن يعنى إدارة القناة بالكامل من جانب مصر، بل إنه تحرير لكامل الإرادة المصرية في قضية استراتيجية، وبقرار منفرد من صميم العقلية المصرية، بعيدا عن أية حسابات للدول العظمى في ذلك الوقت، لذا فإن أحداث العدوان الثلاثي كان ولابد أن تفتح آفاقا لطرق العديد من القضايا ذات العلاقة المباشرة، والتي تفجرت خلال السنوات الأربع التي سبقت وقوع العدوان، بل وقبل وقوع العدوان في مرحلة تبلور الفكرة الثورية لدى قادة يوليو1952، وبالتحديد منذ قيام الدولة العبرية ونشوب حرب فلسطين في عام 1948. صراع قديم حديث تؤكد الدلائل التاريخية أن الصراع على القناة لم يبدأ بهجوم انجلترا وفرنسا في31 أكتوبر 1956، بل إنه صراع قديم حديث، فقد كشف الدكتور محمد عبد المقصود المنسق العام لمشروع تطوير المناطق الأثرية شرق وغرب قناة السويس الذى تنفذه حاليا وزارة الآثار عن أحد الأسرار الحربية فى حرب أكتوبر، وهو استخدام الجيش المصرى فى حرب 1973 قلعة " ثارو" أكبر منظومة دفاعية مركزية في مصر القديمة الواقعة فى منطقة آثار "حبوة" شرق قناة السويس كنقطة للعبور، وهو نفس الموقع الذى قاد منه أحمس أول معركة ليحرر مصر من الهكسوس. وأشار عبد المقصود، إلى أن هذا الموقع كان يضم أضخم التحصينات العسكرية فى العالم، والتى يصل طولها إلى 800 متر فى 400 متر، وبعض أسوارها يصل سمكها إلى 25 مترا ، وكان نقطة إنطلاق لجميع الجيوش المصرية لتأمين حدود مصر الشرقية ومقر لملوك مصر العظام منهم "سيتى و رمسيس" وفى مقدمتهم الملك "أحمس الأول" الذى قاد معركة كبيرة من هذا الموقع بطرد الهكسوس من مصر، كما أنه ومن خلال قلعة " ثارو" أكبر منظومة دفاعية فى مصر، تم الكشف عن 11 من قلاع طريق حورس الحربية القديمة بين مصر وفلسطين، من القنطرة شرق وحتى رفح المصرية، وكلها دلال تشير إلى أن قناة السويس ظلت على مدار التاريخ شوكة فى حلق العدو، وهنالك أعداد لا تحصى ولا تعد من الكتب والمجلدات والوثائق التي تؤكد ذلك، لكننا سوف نركز جل اهتمامنا في هذا الملف على مادار في أعقاب قرار عبد الناصر بالتأميم 1956، وما تبعه من تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي. وذلك بالغوص في سجل بطولات قواتنا المسلحة التي صاحبت ذلك على الرمال الساخنة في سيناء، وكذلك على ضفتي القناة على امتداد سواحل المدن المتاخمة للقناة، خاصة أن أبناء هذه المدن كانوا ظهيرا شعبيا وطنيا خالصا، وسندا قويا للقوات المسلحة في العبور من النكسة، مرورا بحرب الاستنزاف التي شهدت بطولات من زمن الهزيمة قادت إلى النصر في أكتوبر 1973، وما أعقبها من تداعيات مرعبة، ووصولا إلى مشروع القناة الجديدة ومحور التنمية الطموح حاليا، والذي يمثل في الواقع فصلًا جديدًا في النضال ، ولن يكون الأخير بالطبع ما دامت لمصر مكانتها وللقناة أهميتها في هذه المنطقة الحساسة من العالم، ولعل من أهم مزايا هذا المشروع أنه استطاع إعادة توحيد الأمة المصرية من جديد وأعاد الثقة لدى الإنسان المصري في الصمود والتصدي لحملات الإرهاب. القرار التاريخي القصة طويلة ومابين سطورها تكمن تفاصيل بطولية رائعة، نبدأها وبتلخيص مكثف من يوم26 يوليو 1956 ، عندما أعلن الزعيم جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية، وجاء قراره الجسور بتأميم شركة قناة السويس، بعد أن سحبت الولاياتالمتحدة عرض تمويل السد العالي بطريقة مهينة لمصر، ثم تبعتها بريطانيا والبنك الدولي، وقدمت بريطانيا على أثر القرار احتجاجاً رفضه عبد الناصر على أساس أن التأميم عمل من أعمال السيادة المصرية، فقامت هيئة المنتفعين بقناة السويس بسحب المرشدين الأجانب بالقناة لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها، إلا أن الإرادة والعزيمة المصرية أثبتت عكس ذلك. هجوم بريطاني فرنسي في 31 أكتوبر 1956، هاجمت الدولتان مصر، وبدأت غاراتها الجوية على القاهرة وعلى منطقتي القناة والإسكندرية، وأصبحت مصر تحارب في جبهتين، جبهة إسرائيل على الحدود، وجبهة الاستعمار البريطاني الفرنسي في الداخل، الذي يهدد باحتلال القناة، فأصدر عبد الناصر الأوامر بسحب جميع القوات المصرية من صحراء سيناء إلى غرب قناة السويس، وتُركت وحدات انتحارية لتواجه اليهود في سيناء، لكن عملية غزو مصر من جانب القوات البريطانية والفرنسية بدأت من ناحية بورسعيد، وتم ضربها بالطائرات والقوات البحرية ولكنها لم تستسلم، بل إن المقاومة الشعبية البورسعيدية الضارية ضد القوات البريطانية والفرنسية حركت العالم ضدهما، واتخذت الدول العربية موقفاً مندداً بالعدوان وقامت بنسف أنابيب البترول، ومنعوا وصوله إلى بريطانياوفرنسا، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في 2 نوفمبر 1956 بإيقاف القتال، وافقت مصر عليه ورفضته كل من بريطانياوفرنسا وإسرائيل التي كانت قد انضمت رسميا للعدوان. فشل مخططات العدوان وتبقى صفحة المقاومة المصرية والتحام الجيش والشعب ضد العدوان من أهم أسباب فشل العدوان الثلاثي على مصر، فضلا عن وقوف الشعوب العربية، وهو ما دفع إلى انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد في 23 ديسمبر 1956م ، وهربت إسرائيل متأخرةً من سيناء في أوائل عام 1957م، فلم يكن انسحابا كما يسمونه من قطاع غزة، ووضعت قوات طوارئ دولية على الحدود المشتركة بين مصر وإسرائيل. واستنادا للأدبيات السياسية والاستراتيجية للدول العظمى تعتبر أزمة السويس التي كانت في واقع الأمر عدوانا رباعيا وليس ثلاثيا كما يؤكد اللواء "حمدي شعراوي" مساعد قائد قطاع بورسعيد ورئيس أركانه في حرب 73 قائلا : لقد كانت أمريكا طرفا رئيسيا منذ لحظة اندلاع الأزمة، بل إنها مهدت لحرب 56 ، حيث أمدت إسرائيل ب 70 طائرة مقاتلة قبل العدوان بأيام ، وأمدت انجلترا بخزانات وقود إضافية للطيران حتى يصل مدى الطائرات للعمق المصري، وزودت الطيران البريطاني أيضا بمحركات للعمل في الأجواء الحارة نظرا لأن طائراتها كانت تعمل في أجواء باردة ، كما أخلت القوات البريطانية والفرنسية من مهام مواجهتها للقوات السوفيتية العاملة في حلف الأطلنطي للتفرغ والتدريب للحرب ضد مصر. وفي إطار عملها التآمري آنذاك عمدت أمريكا إلى إشعال ثورة المجر، وصنعت نوعا من القلاقل في بولندا كي ينشغل السوفيت بمشكلة داخلية عن العدوان على مصر، لذا فمن الغباء أو السذاجة بمكان أن يتخيل أحد أن الولاياتالمتحدة لم تكن تعلم بحرب 56، وهي التي كانت قبلها تقوم بتدريب محاربي إنجلتراوفرنسا، ومن سذاجة القول أيضا بأنها لم تكن غير قادرة على القيام بالضغط لوقف الحرب، والعهدة هنا على مجلة المخابرات الفرنسية في قولها أثناء حرب 56 : كيف تقول أمريكا أننا كنا وحدنا الذين نحارب في بورسعيد، بينما كان الهجوم منذ اليوم الأول يتضمن طائرات أمريكية ضمن حلف الأطلنطي. لقد كان الأمريكان - بحسب مجلة المخابرات الفرنسية – على قناعة بصحة قول "إيدن" أنه بمجرد بدء الغارات فإن الشعب المصري سيثور على قيادته الثورية، وبالتالي يؤدي ذلك إلى إسقاطها، ولكن على أثر فشل السيناريو توقف الطيران الأمريكي وغادر المعركة في اليوم التالي. ويضيف اللواء شعراوي: أيزنهاور لم يتدخل إطلاقا لوقف الحرب أو إخراج البريطانين والفرنسين إلا بعد أن وجه رئيس الاتحاد السوفيتي إنذاره بضرب لندن وباريس بالصواريخ، وقال لإسرائيل قولته الشهيرة "لقد فقدت إسرائيل مبرر وجودها"، كما هدد بإزالة دولة إسرائيل، ولما انبهر العالم وشعوبه بأداء السوفيت رأى "أيزنهاور" في ترك أمريكا لساحة المعركة نوعا من الحفاظ لماء الوجه، واستغلال الظروف المواتية لصالحها بتوجيه إنذار إلى إنجلتراوفرنسا للخروج من مصر، ونلاحظ هنا أنه لم يقم بإنذار إسرائيل وقتها إلا بعد إعلان عبد الناصر أنه لن يفتح القنال إلا بخروج آخر جندي أجنبي من مصر. ولعل استعواض السوفيت للسلاح المصري المفقود في الحرب، ووضوح الرؤية بأن القوات المصرية تستعد للهجوم والقيام بطرد إسرائيل والمتوقع هزيمتها بحسب تجربة 56، حيث لم تنجح أي قوة إسرائيلية في اقتحام موقع مصري واحد إلا بعد إخلائه من المصريين خلال 72 ساعة حسب خطة سحب الجيش لمواجهة المجهود الرئيسي لقتال إنجلتراوفرنسا, ولما رأى أيزنهاور أن الشعب المصري قد انضم لجيشه في صورة المقاومة الشعبية وجه إسرائيل على الفور إلى ضرورة إخلاء سيناء يوم 7 مارس 57 ، بعد أن طمأن قادة إسرائيل إلى ضمان التفوق في المعركة القادمة - يقصد نكسة 67- وهو ما جعل إسرائيل تشترط لسحب قواتها ضرورة أن تخلي مصر منطقة "شرم الشيخ" للقوات الدولية بزريعة منع الاحتكاك بالإسرائليين، وفي نفس الوقت أعطى أيزنهاور ضمانا سريا لإسرائيل بأنه في حالة ما عاودت مصر ممارسة حقها في شرم الشيخ فإنه سيقوم بضمان المرور البحري للإسرائيليين في خليج العقبة، ولقد حاول بالفعل التجاوز مرارا عن مرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة رافعة العلم الإسرائيلي إلا ان "همرشولد" سكرتير عام الأممالمتحدة رفض رفع العلم الإسرائيلي في المياة الإقليمية المصرية. لقد كان الخداع الأمريكي واضحا كما بدا في قول أيزنهاور لعبد الناصر: "إنه من حق مصر العودة في أي وقت إلى شرم الشيخ"، بينما أعلن وزير الخارجية الأمريكية "جون فوستر دلاس" أن مياه خليج العقبة مياه إقليمية مصرية ، وأن مصر أهم دولة في العالم ، وذلك بعد لقائه بعبد الناصر في ذلك الوقت، ومن هنا تبدور حرب 56 هى فاتحة عصر جديد في عميلة الصراع وأدواته بين القوى العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن ظهور الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة دولية طامحة لتبوء مكانة تهيمن من خلالها على مقاليد السياسة الدولية، فقد جاءت ضمن العالم الغربي لتحتل عنوة جميع مواقع الدول العظمى السابقة بريطانياوفرنسا، والتي أفل نجمها بعد العدوان الثلاثي. "الجيش والشعب إيد واحدة" الأمر المؤكد أن أحد لاينسى أن أحد أهداف ثورة يوليو 52 هو بناء جيش وطنى قوي ، وبالتالي كان هناك تناميا واضحا في بناء الجيش كما يقول اللواء أركان حرب طيار "هشام الحلبي" وهو ما يتضح من صفقة الأسلحة التشيكية لدعم تسليح وتطوير القوات المسلحة، كما أن الظهير الشعبي القوي للجيش كان من أهم الأسلحة الاستراتيجية في ذلك الوقت الذي شهد نوعا من المد القومي والوطنى، وهو مايؤكد أن شعار "الجيش والشعب إيد واحدة" قد ولد من رحم أزمة العدوان الثلاثي، وليس من قلب ميدان التحرير في 25 يناير 2011 - كما نتصور - رغم أنه لم يكن شعارا يطلق بهذا النص في ذلك الوقت، لكن إقبال الشباب المصري ورغبته العارمة في الالتحاق بالقوات المسلحة ليحظى بشرف الجندية في مرحلة نمو الشعور الوطني الجارف، جراء ما كان للجيش ثقل كبير داخل المجتمع المدني. ولقد تنبهت القيادة إلى مسألة حماية منطقة القناة كلها بانتشار قوات الجيش على ضفتي القناة، وكذلك تأمين الممر الملاحي نفسه، فضلا عن انتشار القوات في جزء كبير من سيناء في إطار حماية قرار التأميم على أرض الواقع، على المستويين الفني والسياسي الداخلي، لكن الملحوظ أكثر وقتها أن الظهير الشعبي وحب عبد الناصر كان يعد أكبر حماية لقرار التأميم في حد ذاته، كما تجسد عبر المقاومة الشعبية في مدن القناة التي جعلت من بورسعيد والسويس والإسماعيلية عصية على قوى العدوان ، وحالت بينها وبين احتلالها، ولقد ضربت المرأة المصرية في بور سعيد على سبيل المثال أروع الأمثلة في الصمود والتصدي للجنود الأجانب الذين يتساقطون كالمطر بالمظلات في الشوارع فيلقون حتفهم بسكاكين نساء المدينة الباسلة. ولنتأمل هذا المشهد جيدا، فقد تم كل ذلك دون تخطيط مسبق، رغم عدم وجود أساليب الحشد التي تحدث في مواقع التواصل الاجتماعي حاليا ، ومع ذلك كان الشعور الوطني يتنامي بشكل مذهل، رغم نسبة الأمية الكبيرة ومحدودية انتشار الصحف وضعف خطوط التليفون، فقط ربما كان للإذاعة الدور الوحيد في التوجيه والحشد على قلة تأثيرها، فعندما كانت إحدى مدن القناة تتعرض لغارة كان المواطنون البسطاء يسبقون قوات الجيش، أو يدعمونهم في الرد عليها بقسوة، وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على أن الحس الوطني عند المصريين يسري في دمائهم في وقت استشعار الخطر، وفي اللحظات الفاصلة من عمر الوطن دون أدوات للحشد. وهو ما يفسر حالة الانسجام بين "الجيش والشعب والقيادة السياسية" التي تجلت بشكل واضح في عهد عبد الناصر، فطبقا للمصطلح السياسيphysical and logical communication)) فإن القائد والزعيم الضرورة عندما يخطب وتسمعه أو تراه الجماهير، سرعان ما يرتبط بهم فكريا وتجري لغة اتصال مباشرة بينه وشعبه، وحتى لو لم يكن ماثلا أمامهم، وعلى أثر هذا تتشكل قناعة كبيرة به، وسرعان ماتجري حكايات البطولة والإيثار كالنار في الهشيم، من المنزلة حتى أسوان، تماما كما حدث مع الزعيم "أحمد عرابي" الذي لم يكن سوى "أميرلاي" أي عقيد بالجيش، لكن وقفته أمام الخديو أعطت الثقة للناس فتحركت الجماهير وكونت الظهير الشعبى الذي وقف ببطولة مشهودة أمام الاحتلال الانجليزي في أوج جبروته، وهو نفس ما حدث مؤخرا مع المشير عبد الفتاح السيسي في أثناء تصديه للإخوان حيث تكون الظهير الشعبي "تمرد" في زمن قياسي، ما مكنه من تجاوز الأزمة وعودة مصر لدورها الطبيعي. قصص من سجل الكفاح ويظل محفورا في الذاكرة المصرية قصص من البطولة التي لم تسجل بأسماء أبطالها حتى الآن، كما يتذكر اللواء حمدي شعراوي الذي شارك في حروب " 56 و67 و73" ، فيحكي لى جوانب من تلك الحكايا الآثرة عن نماذج من البطولات والأبطال الذين مازالوا في طى الكتمان ومنها: أنه عقب اتفاق مصر وإسرائيل على الهدنة عام 48 حاولت القوات الإسرائيلية بأوامر من "موشي ديان" الدخول لمنطقة "أم الرشراش" أو "إيلات" كما يطلق حاليا ، ونجح الإسرائيليون في طرد دوريات حرس الحدود المصرية، لكنهم لم يتمنكوا من الوصول للمنطقة رغم محاولتهم إغراء أعرابي من سيناء للاستعانة به في الدخول إلى المنطقة، لكنه رفض بدافع وطني خالص. ومن المفارقات البطولية العجيبة القادمة من زمن 48 أيضا، قصة شاويش مصري في منطقة الفالوجا، ظل يقاوم العدو طوال الليل بإطلاق نيران بندقيته، وفشل زملاؤه في لفت نظره إلى أن شمس النهار قد أشرقت وبالتالي عليك التوقف، فلم ينبه لإشاراتهم، ولم يدرك زملاءه أن بعض الشظايا أصابت عينيه بالعمى فلايستطيع التمييز بين الليل والنهار. ومن سجل بطولات 48 التي لاتنسى، رغم اختفاء أسماء أبطالها : إنه في أعقاب استيلاء الإسرائيليين على قرية تسمى "بيت جبرين" بالقرب من "الفالوجا"، أمر الرئيس جمال عبد الناصر بالهجوم عليهم وكبدهم خسائر تراوحت بين 500 و600 من جنودهم، وبالتالي لم يجرؤ على الاقتراب من الفالوجا حتى انتهاء الحصار، ومن قلب هذا الحصار تبرز بطولة "زكريا محيي الدين وصلاح سالم ومعروف الحضري" الذين اصطحبوا عشرة من الجمال تحمل المؤونة والأدوية للمحاصرين في مهمة خاصة ونجحوا في كسر الحصار والتقاء زملائهم وإقامة وليمة بعد ذبح الجمال. وهنالك في دفتر 48 قصة بطولة مصرية لم ترو من قبل ، فقد كانت مصر لاترغب في دخول الحرب ، لكن الملحق الانجليزي ذهب للملك فاروق وحرضه على الدخول فيها بدعوى أنه لايصح أن تقف مصر متفرجة في ظل المذابح التي تجرى على أرض فلسطين، وحتى يكون لمصر دورها المنوط بها وسط العرب زجت للحرب بوعد من الانجليز للملك بإمداده بالسلاح والذخيرة، لكن بريطانيا بدأت تتحكم في الذخيرة يوما بيوم حتى لا يتحقق للمصريين التفوق، لكن القوات المصرية لجأت إلى التحايل، حيث يتعاملون في وضح النهار بشكل قانوني ، وعندما يأتي الليل يقومون برشوة جنود حراسة المخازن الانجليزية ليحصلوا على احتياجات جنودنا، ومن القصص الطريفة في هذا الصدد أن عددا قليلا من جنودنا استطاع دخول أحد المخازن والاستيلاء على قنبلتين زنة 500 رطل، وكانت سلاحا مهولا آنذاك ، وقام الطيارون المصريون بقصف تل أبيب بهما ما سبب زعر بريطانيا ، ومن خلال تحقيق موسع اتضح أن الجنود المصريين نجحوا في تلك المغامرة بعد رفض الحراس تسليمهم الذخيرة بحجة أنها كانت ليلة رأس السنة، وبالتالي يصعب فتح المخازن. وعلى مستوى شجاعة القيادة يذكرنا اللواء شعراوي بأنه في عقاب ثورة 52 ، كان اتخاذ قرار الدولة بالتفاوض على الجلاء، وهذا لايتم عادة إلا عن طريق المرافعات ، لكن عبد الناصر رأى أن هذا لايتم سوى بالقوة ، ومن ثم قام باختبار الشعب المصري وأصدر أوامره بخطف الجنود البريطانيين، وبالفعل تم خطف بريطاني يدعى "ريجرن"، ما دفع إنجلترا إلى توجيه إنذار لمصر بسرعة الإفراج عنه قبل الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي، وإلا سيتم اجتياح مدن القناة ، لكن "صلاح سالم" ظل يبث أحاديثه في الإذاعة المصرية كل نصف ساعة في محاولة لاستنفار أهالي مدن القناة الذين توافدوا بأعداد وفيرة يحملون العصي، وما يتوفر لديهم من أسلحة بيضاء لملاقاة الانجليز، وبعد أن أدركوا خطورة الموقف تراجعوا عن تهديداتهم، وبعدها بيومين أفرج عبد الناصر عن الطيار مع طاقمه واستقلوا طائرة إلى قبرص، وفور هبوطهم أرض المطار تحدث "ريجرن" للإذاعات البريطانية قائلا: "لم أعرف كيف تم خطفي أو إخفائي طوال الأيام الماضية ولا حتى كيف ظهرت هنا في هذا المكان"، والسؤال : ترى من كان بطل هذه القصة، ولماذا يسجل اسمه بحروف من نور في سجل البطولات؟ ومن خلال ماسبق من بعض حكايا البطولة والفداء يتضح لنا إن لغة خطاب قادة عظام في تاريخ مصر الحديث "عرابي - عبد الناصر - السادات - السيسي" كانت ومازالت تعتمد على تكامل مثلث "الجيش – الشعب – القيادة"، ومن ثم تنجح على الفور في أن تحقق الحشد الشعبي وتنمي الشعور الوطني في فترة زمنية قياسية، وليس هذا فحسب بل إنها تؤكد حقيقة أنه لايوجد مخلوق على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يثني الإرادة المصرية، أو يقترب من تراب هذا الوطن طالما ظل هذا المثلث مكتملا بأضلاعه الثلاثة، ولنا في السادات مثال مهم في هذا، فبعدما تعرض لحملات هجوم شرسة، وتشكيك بتقاعسه عن تحرير الأرض ، حتى جاء قراره في السادس من أكتوبر 1973 بالعبور ليوحد هذا الثلاثي الذي قادنا من الهزيمة إلى النصر. درس "سان تزو" في فن الحرب ويشير "اللواء طيار الحلبي" إلى إدراك القيادة المصرية ضرورة تجنب هزيمة 67 ، فبحسب دروس المفكر العسكري الاستراتيجي الصيني "سان تزو" في القرن الرابع قبل الميلاد في حديثه عن استراتيجية الحرب طبقا لكتاب " فن الحرب": "لابد أن يكون توقيت الحرب ومكانها من اختيارك" ولا تفرض عليك بأي حال من الأحوال ، كما سبق وفرضت علينا في 1956، لكن الكبرياء الوطني المصري والعربي كان في أوجه بعد قرار التأميم، تحت دعم ظهير شعبي قاد للنصر على دولتين عظميين "فرنساوبريطانيا"، وهذا لم يكن كافيا، بل كان الأمر يستلزم وجود رؤية للواقع الجديد، خاصة أن هذه الدول لن تتركك حتى من باب مصالحها في المنطقة برمتها، والتي ترتبط جغرافيا وتاريخيا بالضرورة بقناة السويس. ووعى عبد الناصر قول"سان تزو" أيضا: "إن القائد الذي يتغلب على كبريائه في سبيل إنجاح خططه، هو قائد لا يتكرر كثيرا في التاريخ"، خاصة أن هناك دائما سيناريوهات محتملة لدى الذهنية الغربية لاستغلال هذه المنطقة الحيوية من العالم وتحجيمها والسيطرة عليها، وهذا ربما ينذرك بضربة قادمة لا محالة ، قد لاتراها ولكن لابد أن تتوقعها وتجهز لها، أو تتجنبها لحين تحديد توقيت ومكان من اختيارك أنت، والمكان هنا محدد بقناة السويس وما يتبعها من مناطق سيناء"نكسة 67" ، لكن الزمان كان ينبغي أن يتم اختياره طبقا لجاهزيتك العسكرية مع عوامل الاقتصاد والاجتماع والسياسة التي تكفل لك التفوق في نهاية المطاف. نكسة وليست هزيمة بالطبع كانت هناك دروس كثيرة مستفادة من تلك النكسة، وليست "هزيمة" كما يقول البعض، لأنه بخسارة الحرب لم تنكسر الإرادة الوطنية، ولعل حجم المظاهرات التي انطلقت لرفض القرار الوطني المسئول بتنحي عبد الناصر غير المسبوقة تحقق هذا المفهوم، فقد أكد هذا الطوفان الشعبي عدم انكسار الإرادة الوطنية، صحيح أنك خسرت قطعة من أرضك وهناك هزيمة عسكرية بكل المقاييس على مستوى الدولة، ومع ذلك ظلت معنويات الشعب عالية، مايعني انتفاء صفة الهزيمة، ومن ثم تمت عمليات إعادة بناء القوات المسلحة بشكل يدرس عالميا، خاصة أنه تم في ظل ضغوط من جانب العدو، وبعد ضرب الطيران المصري على الأرض في 67 وأصبحت الأرض مكشوفة، وهو ما أوعز ببناء دوشم للطائرات بدعم من القطاع المدني، وبناء مطارات جديدة وممرات داخلها لتنفيذ الطلعات بشكل سريع – وهذا يشير إلى البطولة في تخطيط القيادة المصرية للضربة الجوية الشاملة في أعقاب 67 مباشرة - كما كان ولابد من فصل منظومة الدفاع الجوي عن القوات الجوية كجناح رابع للقوات المسلحة، وبناء حائط الصواريخ الذي ضمن أمن سماء مصر حتى عمق 15 كيلو مترا داخل سيناء لمنع طائرات العدو من التحليق فوق القناة وضرب القوات المصرية في أثناء العبور. ويهمنا أن نذكر في هذا المقام، أن هذه الدروس المستفادة حققت التفوق لحساب القوات الجوية التي حاربت في أكتوبر 73 فكانت هناك ثلاث بطولات حقيقية، وهى أولا : إعادة بناء القوات المسلحة قبل 73، والبناء هنا ليس سلاحا فقط بل أسلوب تدريب وابتكار أساليب قتالية جديدة، نظرا لأن سلاحنا كان أقل كفاءة مما كان لدى إسرائيل من الجيل الثالث من السلاح ممثلة في طائرات "الفانتوم" بينما طائراتنا من ال "ميج 17" التي تتبع الجيل الأول، وال "ميج 21، و سوخوي 7 " التي تتبع الجيل الثاني، ثانيا التركيز على التدريب غير الطبيعي، ووسط كل ذلك برزت كفاءة ومهارة المقاتل المصري ليصبح رقما صعبا في ميدان المعارك، رغم ضعف العامل الاقتصادي، فضلا عن توقف الملاحة في القناة التي كانت توفر العملة الصعبة لشراء معدات جديدة كانت قاصرة على المعسكر الشرقي، وهو الآخر كان تحت وطأة الحرب الباردة، الأمر الذي يمنعه بالضرورة من إمداد مصر بالسلاح الحديث كي لا يؤثر على كفاءته، ثالثا حافظ الجيش على نقل الخبرات من جيل أكتوبر إلى الأجيال التالية، ما حافظ على كفاءة الجندي المصري المعروف بخير أجناد الأرض حتى اللحظة الحالية، وقد تجلت تلك الكفاءة القتالية المصرية للعالم في مناورات "النجم الساطع" وغيرها من المناورات مع دول الغرب حين أذهلتهم مهارة جند مصر، رغم أننا كنا نشترك بطائرات الجيل الثاني من "ميج 21" وهى لا تضاهي تقنيات ال" f14 وf15 " ، لكن أسلوب الهجوم الجماعي المشترك في لحظة واحدة أظهر تلك الكفاءة المصرية النادرة. المهم أنه جراء فصل القوات الجوية عن الدفاع الجوي الذي تم إمداده بتكنولوجيا متقدمة، لتتكامل مع القوات الجوية والبرية والبحرية في آن واحد بتدريب أعلى وكفاءة قيادة مستقلة ما مكن قوات الدفاع الجوي من بناء 200 منصة صواريخ في 200 يوم، وبتكلفة لاتزيد عن مليوني جنيه مصري - كما هو مثبت في متحف الدفاع الجوي" بالمقطم - بطريقة احترافية. وتوالت منظومات التدريب والكفاءة التي كفلت تأمين سماء مصر حتى حرب 73، وبعد أن أدركت القيادة ضرورة استشعار الخطر قبل وقوعه، ففي حرب الاستنزاف كان هناك استهداف للمنشآت المدنية من جانب العدو الإسرائيلي تحت مسميات خاطئة، والادعاء بوجود أسلحة في هذه الأماكن المدنية في "بحر البقر، مصانع أبو زعبل، والمعادي"، واعتبارها مناطق عسكرية تبرر الاستهداف، ما دفع عبد الناصر في خطبته الشهير عام 70 إلى التوضيح بأن الغرض من هذه الهجمات ليس لضرب منشآت عسكرية، بل الهدف كسر إرادة الشعب المصري مرة أخرى في محاولة لإقناعه بأنه لايقدر على دخول الحرب، ولعل شيئا من هذا يحدث الآن في محاولات كسر شوكة الجيش المصري في سيناء، ما يشير إلى أن عدوك يحللك بشكل صحيح دائما، ويعرف نقاط ضعفك وقوتك، ويعلم أن الإرادة المصرية هى حجر الزاوية في كل شئ. كسر نظرية الأمن الإسرائيلية لقد أدرك السادات حكمة "سان تزو" في اختيار التوقيت والمكان المناسبين للحرب، ووضع المعايير التي تضمن النصر قبل أن يذهب لميدان المعركة، ولم يجنح لأسلوب المغامرة في ظل جبهته مفتوحة على امتداد القناة والضفة الشرقيةلسيناء كلها، وتلك كانت من أهم الدروس المستفادة من زمن الهزيمة لضمان تحقيق الهدف من الدخول للحرب، كما اتضح من خلال المنطوق السياسي والعسكري للرئيس السادات حين قال : "على القوات المسلحة أن تقوم بعمل عسكري في حدود إمكاناتها، ما من شأنه كسر نظرية الأمن الإسرائيلية" واضعا في اعتباره أن المدى التكتيكي للطائرات المصرية محدود، ولذا اعتبرها "حرب تحريك وليس تحريرا كاملا"، وبنى خططه الاستراتيجية على الحفاظ على قواته في هذا المدى القصير، إذا لابد من غطاء جوى يحميك، ويبعدك عن مرمي ضربات العدو المسلح بأحدث التكنولوجيا العسكرية، ولهذا فإن أي تطوير هجومي يزيد عن ذلك يمكن أن يقلب الموازين لصالح إسرائيل، ويكبد الجيش المصري خسائر فادحة لا يتحملها، لحين الدخول في مفاوضات السلام التي أعقبت نصر أكتوبر. كان أمام السادات أربعة تحديات، الأول تجميع القوات المسلحة لتقوم بتنفيذ هجوم تحت سمع وبصر ونيران عدو بينك وبينه القناة، والثاني عبور هذه القوات للمانع المائي، ولايسمى هذا العمل بالتعبير العسكري عبورا ، بل اقتحام، لأن العبور يكون في منطقة سلمية تكون تحت السيطرة المصرية، والثالث اقتحام الساتر الترابي، والرابع هو تدمير "خط بارليف المنيع "، فضلا عن المواجهة الشرسة للعدو، وتأمين شريط القناة بعمق من (15- 20 كم) وبناء دفاعات قوية وحصينة، وهى عملية تدرس في الأكاديميات العسكرية الدولية باعتبارها "الحالة المثالية أو النموذجية" للقوات المسلحة الأقل في الإمكانات ومع ذلك حققت أعلى الأهداف، وما أذهل الخبراء العسكريين في هذه الحالة، إنه ولأول مرة في تاريخ الحروب يستقيظ الإسرائيليون يوم السابع من أكتوبر 1973 على مفاجأة وجود "مليون مقاتل مصري" على الضفة الشرقية للقناة مما يستحيل معه رد تلك الأعداد. وللحقيقة لابد من الإشارة إلى "حنكة السادات السياسية" التي تدعم خبرته الحربية، فالقائد العسكري على مر التاريخ ينجح أكثر عندما يمتلك وعيا سياسيا، كما أن العسكرية والدبلوماسية وجهان لعملة واحدة، وهذا ما أوحى لقائد الحرب والسلام بكسب مساحة جغرافية صغيرة، والموافقة على قرار وقف إطلاق النيران بعد أن ظهرت بوادر مد الجسر الاستراتيجي جوا وبحرا، والمعروف ب "عملية نيكل جراس" بين أمريكا وإسرائيل والذي تلقت إسرائيل بموجبه أكثر من 85 ألف طن من المعدات العسكرية التي قلبت الموازين في ميدان المعارك، وهو الأمر الذي قاد الرئيس السادات إلى نقل جبهة القتال إلى مفاوضات (الكيلو 101) بحيث يمهد للدبلوماسية وسائل من الضغط باستغلال الثغرة، في التفاوض على باقي الأرض عبر معاهدة السلام وتحقيق أهداف الدولة بالتعاون مع البيئة الدولية بعد كسب تعاطفها، واستمالة الأممالمتحدة وإقناعها بالدفاع عن الأرض بالطرق السلمية حتى لايتوفر لها من قبل مجلس الأمن وجود مبرر أخلاقي لضربك تحت "البند السابع". خداع البحرية الاستراتيجي الذي لم يذكره التاريخ من قبل، أنه في أثناء هذه المفاوضات شكلت القوات البحرية أهم نقاط الضغط في التعامل مع الأزمة، حيث تحركت قبل معارك العبور بفترة كافية لتحتل أماكنها في باب المندب، مع وجود قوات بحرية في جنوبي قبرص ومالطا، تحت خطة خداع استراتيجي تقضي بإرسال سفن حربية لإجراء الصيانة بالاتفاق مع دول جنوب شرق آسيا "باكستان" عن طريق باب المندب، وباتفاق آخر مع بعض الدول الأوروبية كقبرص ومالطا، بحيث تلحظ السفن التجارية نوعا من التواجد العسكري المصري في هذه المناطق، وبالتالي تحجم عن الاتجاه نحو القناة، في وقت تحاول فيه الدول الغربية البحث عن طرق لنقل البترول لتوفير الطاقة اللازمة. ونظرا لوجود القوات البحرية المصرية في مسرح عمليات خارج مصر، وفي التوقيت المطلوب شكل هذا الوجود العسكري كارت ضغط قوي في أثناء مفاوضات الكليو101 أمام المفاوض المصري يستخدمه في مرحلة ما بعد فض الاشتباك، وفصل للقوات بالصورة التي ترغب فيها مصر، ليسجل للبحرية بطولة تضاف لسجلاتها في الدفاع عن الأمن القومي المصري، بعدما وعت دروس هزيمة 67. جدير بالذكر أن خطة الخداع الاستراتيجي على المستوى السياسي والعسكري كانت ناجحة تماما، بحيث غطت كل الأماكن ووفرت كل التجهيزات اللازمة للحرب إلى الحد الذي لم تصدقه إسرائيل أو الولاياتالمتحدة، وربما هذا ما أوعز للغرب فيما بعد لتوظيف الإعلام بشكله الحديث في لعب دور يمكن من خلاله تفكيك دول وانهيار إمبراطوريات تحت سطوة تأثير تلك الآلة اللعينة قبل تحرك الأساطيل البحرية، والحقائق الماثلة أمامنا الآن تشير إلى ان لعبة الإعلام تنجح قبل تحرك الجيوش في تفكيك دول كثيرة بسهولة من خلال الجيل الرابع للحرب الذي يعتمد على استراتيجية الهدم من الداخل، وتلك أخطر، من السلاح النووي، خاصة عندما يستهدف (الشعب - الجيش - القيادة)، ونظرا لأن هذا المثلث المصري متماسك حتى الآن فقد أصبح حائلا منيعا دون النيل من هذا البلد.كما تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان للقوات المسلحة عقيدة قتالية، فلابد من أن يكون لها عقيدة إعلامية مشابهة، خاصة في ظل الحرب الموجهة ضدك الآن بروح عدائية على جناح البلبلة وبث المعلومات المغلوطة التي تسبب الإحباط، إلى حد أن يقف الجيش نفسه عاجزا أمامها في ظل تذبذب الروح المعنوية لدى الجماهير، كما هو ماثل أمامنا في "داعش" في العراق وجبهة النصرة في سوريا، وذلك الخليط العجيب من الجماعات الإرهابية في ليبيا، فضلا عن جماعة الحوثي في اليمن، بعدما نجحت آلة الإعلام في كسر شوكة الثقة بين هذه الشعوب وجيوشها النظامية محطمة روح شعوبها المعنوية. توحد الخطر العربي وعلى قدر ما تبدو الصورة قاتمة تحت خطر الجماعات الإرهابية المتطرفة والمتنامية بشكل كبير في المنطقة العربية، لكن تركها أو إهمال تمددها يؤدي إلى تناميها، وهو بالضرورة ما يؤدي لتقسيم تلك الدولة حين تبدأ هذه الجماعات الإرهابية بالسيطرة على جزء من الدولة وإعلان ولايتها عليه، وهذا يدعونا كعرب إلى النظر لحتمية توحد الخطر في العالم العربي، ما يستلزم دعم اتفاقية الدفاع المشترك التي أطلقتها مصر عبر القمة العربية الأخيرة في شرم لمواجهة الإرهاب الموجود في المنطقة حاليا، وذلك على شاكلة توحد القرار العربي عام 1973 لدعم مصر باعتبارها عمق الأمن الاستراتيجي العربي، لأن هذا من شأنه أن يشكل قوة ردع لتلك الجماعات من ناحية، ومن ناحية أخرى يشكل قوة ردع فيما فكرت إيران في محاولة بسط نفوذها على الخليج بحسب الاتفاق النووي الأخير. أما النقطة الأخطر في شأن تلك الجماعات الإرهابية، أنها نقلت إسرائيل من خانة العدو رقم واحد إلى العدو رقم 2 ، بعدما نجحت مساعي الغرب - في غيبة الوعي العربي - في تفعيل أساليب حرب الجيل الرابع من خلال مزج ذكي محترف بين هذا الجيل والثورات العربية، ما جعل الإرهاب هو العدو الأول في المنطقة العربية، ومن ثم توارت القضية الفلسطينية في المخيلة العربية للأسف، ، تماما كما تجلى في نموذج ثورة 25 يناير التي كانت ثورة نقية، وعبر فيها الشباب عن مطالب شرعية في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن أحدا لم يسأل نفسه: ما علاقة هذا بفتح السجون، وحرق المجمع العلمي، والاعتداء على المنشآت العامة والخاصة والمناطق العسكرية، وقطع خطوط السكك الحديدية، ومحاولات اقتحام وزارة الدفاع؟، في حين أنك تطالب باسقاط نظام تراه فاسدا وتريد بناء دولة حديثة. وهو نفسه المزج المحترف الذي حاول فتح الباب لشيطان الشك في ثورة 30 يونيو، وفي الإنسان المصري الذي قام بأكبر حشد في التاريخ البشري "33 مليون" والتشكيك في قدراته، بالتزامن مع محاولات تكسير الجيش نفسه، من خلال عمليات رمزية في سيناء، بهدف جديد لأمريكا وإسرائيل وأوروبا في استعادة أجواء العدوان الثلاثي من جديد، باستهداف القناة لتحويل الصراع الدولى على هذا الممر المائي إلى صراع داخلي يستهدف المنطقة القريبة من أكبر مشروع للتنمية والتأثير على الملاحة الدولية. مخاطر الجيل الرابع ننبه هنا إلى أن خطورة هذا الجيل الرابع من الحرب تكمن في تغيير المفاهيم عند شباب لم يعش زمن الحروب القديمة، ولا يملك وعيا كبيرا بعمليات الخداع الغربية على مر التاريخ، تلك التي لاتكف عن ابتكار أساليب وطرق تستهدف السيطرة على مقدرات دولة أو أمة بكاملها بعد تكسير جيوشها، ومن خلال المزج الذكي مع الجيل الرابع للحروب، كي ننشغل نحن في قضايا الإرهاب، وهو ما يرتبط بأطماع الغرب التي زادت أكثر في أعقاب نصر أكتوبر73، ولكن بنظرة مغايرة تستند إلى نظرية الأمريكي "ماهان"، والذي يعد أبو البحرية في العالم كله، عندما قال "من يسيطر على البحار أوالممرات المائية يمكن أن يسيطر على العالم"، لهذا فقد أوحى لأمريكا بتطوير سلاح البحرية بهذا الشكل الرهيب من حاملات الطائرات عبر أكبر أسطول بحري يجوب العالم كله للتدريب ومراقبة العقد والممرات البحرية، وإنشاء قواعد بحرية على الشواطئ القريبة منه، كما هو موجود في "جيبوتي" على سبيل المثال وسيظل هاجسه الأمريكان الأول والأخير هو السيطرة على تلك البحار والممرات - منها القناة بالطبع - مهما طال المدى، ومن هنا فقد أدخل الإعلام ضمن تلك الاستراتيجية الخبيثة للجيل الرابع للحرب كي يرسخ لفكرة أن "تصحو على عدوك ميتا"، باستخدام تلك الجماعات الإرهابية التي تسعى لإفشال الدولة، وفرض الإرادة الأجنبية عليها بزرع الفتن بين العرقيات وأصحاب الديانات المختلفة، وفي حال فشل الدولة - كما نعلم – يصبح من السهل السيطرة على ممراتها الملاحية بدعوى حماية الملاحة والتجارة العالمية، أوحتى بزعم حمايتك أنت نفسك من خطر تلك الجماعات، بالتوازي مع كسب المجتمع الدولى بدعوى حماية مصالح أوروبا في أكبر ممر ملاحي دولي وحماية التجارة في آسيا. ويلزمنا التأكيد في هذا المقام على أن ذكاء القيادة المصرية الحالية بالتوجيه لإقامة مشروع تنمية محور قناة السويس لايقل أهمية عن عن نصر أكتوبر أو إقامة القناة نفسها، لأنه في ظل وجود شركات واستثمارات عالمية على امتداد المحور يجعل لمصر ميزة مهمة في ارتباط مصالحها بالعالم، بعدما انتقلت حروب القناة من منطقة الصراع العربي الإسرائيلي إلى دائرة الصراع الدولى، وفي ظل تحول القناة إلى عقدة مواصلات ضخمة لايستطيع العالم التفريط فيها بسهولة، ولعل ذكاء القيادة المصرية قد نجح إلى حد كبير في إجهاض سيناريوهات الجيل الرابع من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمان حماية سيناء ومساعدة مصر في حربها ضد الإرهاب الذي يقترب من الممر المائي الاستراتيجي، وفي الوقت نفسه أثبتت القيادة المصرية الحكيمة للمتآمرين في الخارج والداخل بأن"الحالة المثالية لحروب الجيل الرابع ليست مصر"طبقا للمفاهيم العسكرية الحديثة. ومن المفارقات المعجزة في ظل إفشال تلك السيناريوهات أننا لاحظنا وجود تنام حقيقي للظهير الشعبي برز في تدفق الجماهير الغفيرة لزيارة منطقة القناة التي شهدت أكبر إعجاز عسكري في التاريخ (أكتوبر 1973) وهى المنطقة نفسها التي تشهد معجزة تحطيم حروب الجيل الرابع على صخرتها الصلبة، في حضور قوي للقوات المسلحة التي أخذت على عاتقها منذ البداية تحمل مسئولية المشروع، ممثلة في الهيئة الهندسية التي تشرف على كافة التفاصيل، وصارعت الزمن في تحقيق الإنجاز. و براحة تامة نستطيع القول في النهاية ونحن نحتفل بمرور 42 عاما على نصر أكتوبر العظيم: لقد أصبحت القناة على وضعيتها الحالية مفتاحا لحل كل الصراعات الاقتصادية الدولية، بعدما ظلت طويلا أزمة تتسبب في الصراع العربي والدولي على مدار التاريخ، فضلا عن هذا وذاك فإنها أكدت من جديد على تنامي الظهير الشعبى، بدليل جمع أكثر من 60 مليار في أسبوع في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ليشير إلى أن الشعب يلتف حول قيادته صاحبة الإرادة الحرة، تماما كما حدث مع عبد الناصر في منطوق قرار التأميم. كما يحسب للرئيس السيسي تأكيده على تماسك أضلاع المثلث المصري "الجيش – الشعب – القيادة" والدليل يكمن في الزيارات الجماعية للمدارس والجامعات والهيئات العامة والخاصة وحتى الأفراد للمشروع في أثناء مراحل التنفيذ، لتعيد تلك المشاهد الرائعة أجواء الزيارات الشعبية للنقاط الحصينة التي سقطت في خط بارليف، مثل منطقة "تبة الشجرة" التي تعد مزارا رمزيا للنصر، وغيرها من مناطق تشهد على عظمة الجيش في أعقاب حرب أكتوبر 73، ولعله أيضا درب من السير على خطى المقاومة الشعبية في حرب 56 و67 و73 لدعم القوات المسلحة في الحرب التي تشنها القوى الدولية الآن والتصدي لمحاولات التشكيك في القيادة وغيرها من أمور مريبة يسعى لها الغرب دوما، لكنه يظل رهانا خاسر تماما كما خسر "إيدن" الرهان بمحاولة الوقيعة بين الشعب المصري وقيادته الثورية عام 1956.