لو قضَّى مجرم الحرب الكونغولى بوسكو نتاجاندا بقية عمره بين جدران السجن أو حتى تم إعدامه فلن يساوى ذلك معاناة واحد أو واحدة من مئات الضحايا الذين تعرضوا للتعذيب والاغتصاب والقتل بأيدى أفراد ميليشياته المتمردة، وأحياناً بأوامر منه شخصيا، فقد تصارع مع أمثاله على كسب النفوذ والثروة فى شرق الكونغو الديمقراطية، وأزهقوا أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وشرّدوا أضعافهم ليهيموا على وجوههم فى الأحراش ويموتوا جوعاً ومرضاً، هذا إذا نجوا أصلاً من بطش مسلحى 21 جماعة متمردة وقوات الحكومة ودول الجوار الطامعين جميعاً فى ثروات البلد الطبيعية الوفيرة. 60 ألف إنسان لقوا حتفهم فى الصراع الوحشى بإقليم إيتورى فى شمال شرق الكونغو وحده حيث نشطت جماعته المتمردة المسماة (إم-23) وكان له دور بارز فى المأساة بإصداره أوامر بقتل معارضيه وتجنيد الأطفال وانتزاعهم من بين أحضان أُسرهم ومن أحواش المدارس وإجبارهم على تعاطى المخدرات لإزالة رهبة القتال من نفوسهم.لم يرحم دموع أُم، ولم يأبه بصرخة فتاة أو طفل ولا بتوسلات شيخ، فاستعبد وأتباعُه الأطفال، واغتصبوا النساء، واضطهدوا القرويين البسطاء، ونهبوا بيوتهم ثم أحرقوها خلال عامى 2002 و2003، لذلك أطلق عليه البعض لقب المُبيد أو المدمِّر لوحشيته. المحققون جمعوا أدلّة اتهام ضده ملأت ثمانية آلاف صفحة وجهّزوا 80 شاهداً من الخبراء والضحايا الباقين على قيد الحياة من المقرر أن يدلى أولُهم بشهادته بعد غد أمام المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى فيما يتعلق بنحو 18 اتهاماً وجهتها إليه فاتو بنسودا المدعية العامة للمحكمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من بينها صور لجثث مدفونة فى حقول الموز لأشخاص قتلوهم عشوائياً فى إطار حملة الرعب التى شنوها فى إيتوري، وتضمنت عريضة الاتهام قيامهم باغتصاب الفتيات مراراً وتكراراً وقيام كبار القادة باستعباد النساء جنسياً فأنجبن أطفالاً لا يعرفون آباءهم ولن يعرفوهم أبداً. وأكدت بنسودا أن بوسكو أمر بنفسه بشن هجمات وقتل الضحايا،ومن بينهم أكثر من 150 أُبيدوا فى بلدة كيوانجا وحدها خلال 24 ساعة.غير أنه نفى ذلك وقال إنه تولى حماية المدنيين وكان يدافع عن أبناء عرقيته. عمره 41 سنة فقط وقاد جماعة متمردة منذ 2006 وحتى 2009 عندما اتفق مع الحكومة على دمج أفراد ميليشياته فى الجيش الحكومى ومنحهم رُتباً أعلى وزيادة رواتبهم، لكنه انشق مرة أخرى عام 2012 ومعه 600 جندى مسلحين جيداً، وبينما كان عامة الناس يعانون ويلات الحرب عاش فى قصر بمدينة جوما الشرقية عيشةً باذخة رغم صدور أمر من المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليه، وعندما ضاقت عليه الدائرة عقب هجوم مشترك لقوات الأممالمتحدة والقوات الحكومية هرب إلى كيجالى عاصمة رواندا وسلّم نفسه للسفارة الأمريكية هناك طالباً تسليمه للجنائية الدولية بعد أن شارك فى صنع واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية فى عصرنا، فقد أزهقت الحرب الأهلية أرواح أكثر من خمسة ملايين كونغولى قتلاً وجوعاً ومرضاً منذ الإطاحة بالديكتاتور موبوتو سيسيسيكو عام 1996، وشرّدت أكثر من مليون، وتعرّض مَن بقى على قيد الحياة للاضطهاد والتنكيل والاغتصاب على أيدى الميليشيات المسلحة، بل وقوات الحكومة، ففى دراسة نشرتها مجلة الصحة العامة الأمريكية عام 2011 ذكرت أن 400 ألف امرأة تعرّضن للاغتصاب بين عامى 2006 و2007 بمعدل 1100 حالة فى اليوم، منوِّهةً إلى أن العدد أكبر بكثير لأن كثيراً من الضحايا تكتّمن على ما حدث لهن خشية العار والانتقام.هذا الرقم أكبر 26 مرة من الرقم الذى ذكرته دراسة سابقة للأمم المتحدة فى عام 2010 وهو 15 ألف حالة اغتصاب ووصفت حينها الكونغو بأنها عاصمة الاغتصاب فى العالم، كما اتهم التقرير قوات رواندا وأوغندا وبوروندى وأفراد 21 جماعة مسلحة كونغولية وقوات حكومية باغتصاب واستعباد وتعذيب وقتل آلاف المدنيين وتدمير قراهم بعد نهب ممتلكاتهم. التقرير الدولى لم يقتصر على التعذيب والقتل والاغتصاب والاستعباد وإنما اتهم أيضا قوات من دول الجوار بنهب موارد الكونغو الطبيعية فى الفترة من 1998 حتى 2003 مُقدراً قيمة ما نهبته بخمسة مليارات دولار، فالكونغو التى تساوى مساحتها مساحة ثلثى أوروبا الغربية (2،5 مليون كم2) غنية جداً بالثروات الطبيعية خاصةً الماس الذى تملك 30% من احتياطيه العالمى والذهب والكولتان والكوبالت،والأخير يحتوى إقليم كاتانجا على أكبر مستودع منه فى العالم ويُعدُّ أيضاً ثانى أكبر منتج للنحاس، الأمر الذى أغرى مسئولين من دول الجوار وقادة الميليشيات المحلية بإطلاق شرارة الصراع وإطالة أمده لينهبوا أكبر قدر من تلك الثروات بينما يعيش معظم الشعب تحت خط الفقر، وقبل ذلك استعمرتهم بلجيكا طوال 80 سنة لم تقم خلالها بتنفيذ مشروع تنموى واحد، لدرجة أن قطع طريق طوله 80 كم يحتاج إلى أربعة أيام على الأقل لأنه غير ممهد. فقد اعتبرها ملك بلجيكا وقت الاحتلال ضيعة خاصة به، وعندما حدث احتجاج فى مؤتمر برلين عام 1888 على استحواذه بتلك المساحة الشاسعة اقتطع منها رواندا ومنحها للبرتغال والكونغو برازافيل ومنحها لفرنسا!.لِمَ لا؟، أليست عزبة؟. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى