من الصعب أن تجد مصريا لا يعرف أن للشافعي والسيدة نفيسة ضريحين شهيرين داخل جبانتين معروفتين باسمهما وتجد أن الكثير من مسلمي القاهرة قد زاروا أحد هذين الضريحين وأن عددا لا بأس به دائم التردد على السيدة نفيسة على الأقل، وقد يعرف بعض القاهريين اسم أو موقع الجامع المطبوع على الجنيه المصري، وهو جامع الأشرف قايتباي الواقع بمقابر قايتباي، ولن يختلفوا على أن جميع هذه المباني تعتبر مواقع ذات أهمية تاريخية ودينية، ومن يزور المباني الأثرية منها (مثل ضريح الإمام الشافعي الذي يرجع تاريخ إنشائه الى 608 ه/ 1211م، أو مسجد قايتباي الذي أنشأه السلطان المملوكي الأشرف قايتباي ضمن مجموعة هائلة من المباني منها مدرسة، ضريح، سبيل، كتاب، بوابة، ربع، حوض، ومقعد ومبان خدمية وذلك في القرن التاسع الهجري - الخامس عشر الميلادي)، من يزور هذه المباني تنطبع بمخيلته صور زخارف غنية، وفراغات رشيقة، وواجهات مهيبة. ولا ريب أن هناك ضرورة للحفاظ على هذه الآثار لما لها من قيمة تاريخية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية وروحانية.. لكن ماذا عما يحيط بهذه الآثار؟ .. هل له قيمة أو معنى يتعدى كونه جبانات مدفونا بها آلاف من عائلات القاهرة؟ جميع مسلمى العاصمة لابد أنهم زاروا إحدى مقابرها التاريخية والمعروفة باسم الإمام (نسبة الى بحر العلم الإمام الشافعي) وسيدى جلال (نسبة الى العلامة جلال الدين السيوطي) وسيدى عمر (نسبة الى سلطان العشق الإلهى عمر بن الفارض) وسيدى عقبة (نسبة الى الصحابى عقبة بن عامر) وجميعها تقع بالقطاع الجنوبى من القاهرة بين ميدان السيدة عائشة والبساتين. وقايتباى (نسبة الى السلطان الأشرف قايتباي) وبرقوق (نسبة الى السلطان برقوق) والمجاورين (نسبة الى مجاورى جامع الأزهر أى الدارسين به) وجميعها تنحصر بين طريق صلاح سالم وبين مدينة نصر ومنشية ناصر. والكثير منهم لهم أهل وأقارب دفنوا بها. معظمهم قام بممارسة الطقوس الخاصة بالزيارة مثل قراءة القرآن ورش الماء وتوزيع الصدقات والنفحات وطبعا زيارة الأولياء، كل هذه الممارسات عادات تجدها فى جميع مدن مصر بل فى معظم مدن العالم الإسلامي. لكن هناك مظهرين تختص بهما مدافن القاهرة؛ وجود أحواش مبنية ذات استراحات بها جميع سبل المعيشة ويوجد سكان دائمون يسكنون هذه الاستراحات وآخرون يسكنون العمارات الكائنة بتجمعات سكنية بمحيط المقابر بالقرب من الإمام الشافعى وبرقوق وقايتباى مثلا. وعلى الجانب الآخر يستاء الكثيرون من هذه الظاهرة فيرددون عبارات مفادها أن هؤلاء السكان يشوهون قدسية المقابر ويشوهون وجه مصر الحضارى ...فهل الحل هو استبدال المدافن بالأبراج والفنادق والمحال مع الأبقاء على المبانى الأثرية بدعوى أن «الحيّ أبقى من الميت»؟ خاصة أن هذا سيخلصنا من ظاهرة سكنى المقابر التى يراها الكثيرون ظاهرة غير آدمية وغير حضارية؟. ظاهرة قديمة يجيبنا عن هذا التساؤل محمد عبد العزيز معاون وزير الآثار لشئون الآثار الاسلامية والقبطية ومدير مشروع تطوير القاهرة التاريخية الذى يرى أن هناك عددا من النقاط المطلوب توضيحها قبل أن نحاول الإجابة أولاها أن حدود القاهرة كموقع تراث عالمى قامت منظمة اليونسكو بتسجيله عام 1979 تشمل الجبانات التاريخية بمجملها وليس فقط المبانى المسجلة كآثار من قبل وزارة الآثار التى تزيد على »سدس« إجمالى آثار مدينة، فالقاهرة التاريخية مسجلة كمدينة حية أى أن التسجيل ليس فقط بسبب المبانى القديمة لكن بالأساس لكونها مدينة تاريخية ذات نسيج عمرانى تاريخى يشكل مسرحا لنشاطات حياتية يومية تمتد بجذورها فى الماضي، ومن أهم هذه النشاطات العادات والتقاليد والطقوس المرتبطة بالمعتقدات والتى تشكل تراثا غير ملموس يمارسه المصريون بصورة يومية بشوارع القاهرة وساحاتها خاصة بالأماكن الروحانية بالجبانات حيث البركة النابعة ليس فقط من الأضرحة الشهيرة بل من جميع قبور المسلمين خاصة أعلام التاريخ الإسلامي.. فهل نملك أن نضحى ببركة هذه القبور من أجل حفنة نقود؟ أما الأمر الثاني، فيتعلق بظاهرة سكنى المقابر، فهى ليست وليدة العصر الحديث ، حيث إنها ظاهرة قديمة يرجع تاريخها للعصر العباسى على الأقل، فقد كشفت حفائر أجرتها البعثة الفرنسية بمنطقة اسطبل عنتر عن أحواش بها سبل المعيشة من هذا العصر، و يحكى لنا السخاوى أن الفاطميين اتخذوا بالقرافة مساكن منها القصر ذو المنظرة الذى شيدته تغريد أم الخليفة العزيز بالله وبجواره حمام وبئر وبستان أضاف اليه الخليفة الآمر مصطبة للصوفية كما أن القرافة كانت جزءا لا يتجزأ من تاريخ تطور المدرسة المصرية فى علوم الفقه والحديث والتفسير الإسلامية وأن أوائل قاطنى القرافة هم شيوخ وطلبة المدارس وقد تنافس المماليك مع من سبقوهم فى الحكام فى تشييد المؤسسات الدينية الضخمة بالجبانات وأسسوا جبانة جديدة شرق القاهرة عرفت باسم الصحراء وهى المناطقة المعروفة الآن بالغفير وقايتباى وبرقوق والمجاورين وامتدادها جبانة باب الوزير جنوبى قلعة صلاح الدين وشيدوا بها تحفا من أبهى تحف العمارة الإسلامية إذن فإن ما نراه الآن هو تطور حديث لظاهرة قديمة تدهور بها الحال بسبب سوء إدارة الأوقاف وتوقف نشاطات التعليم الدينى وانتقاله الى مدارس ومعاهد الأزهر ونضوب سبل العيش الكريم مما اضطر معظم عائلات القرافة إلى النزوح مع تحول بعض العائلات إلى تُربِية وقرّاء. إلا أننا لا نزال نرى ارتباط بعض العائلات بالأضرحة ورعايتها الى الآن مثل عائلة محسن بالإمام الشافعى التى مازال بعض أفرادها يسكنون القرافة وينظمون خدمة دورية لرعاية الفقراء والمحتاجين. ساكنو المقابر .. أولا ويستكمل عبد العزيز: كل ما سبق يقودنا إلى نقطة فى غاية الأهمية وهي إن أردنا حقا حماية تراثنا الأثرى ووصوله للأجيال القادمة مصانا ومحافظا عليه فلابد من الاهتمام اولا بالسكان الذين يسكنون بيئته الحضرية المحيطة به فلا يعقل ان نهتم بالحجر دون البشر، فالبشر هم صانعو الاثر والحضارات، ولا يعقل ان أرمم الاثر واطلب من السكان المحيطين به ان يحافظوا عليه من التعديات او السرقات دون ان ارمم بيئتهم الحضرية وأرفع من مستواهم الاجتماعى والاقتصادى والثقافى ومدى اهتمامى بهم قبل اهتمامى بالأثر حتى لا يولد عداوة بين البشر والاثر بل العكس تماما الاهتمام بهم وبمعيشتهم وسكنهم والخدمات المقدمة لهم سوف يسهم فى حماية آثارنا وصونها بالتعاون بين الأهالى والحكومة ولتكن مقاييسه اعمال التطوير الحضرى لمنطقة الجمالية نموذجا يحتذى به فى ذلك، بما فيها من معالجة للبنية التحتية وتطوير واجهات العمائر والمحلات يمكن ان يطبق على كثير من البيئات الحضرية التى تحيط بآثارنا فى القاهرة التاريخية مثل جبانة المماليك، أو قل وادى السلاطين العظام او مدينة الموتى القاهرية او جبانة البر الشرقى للقاهرة التاريخية على غرار جبانة البر الغربى بمدينة الأقصر. مشروع إحياء الجبانة ومن هنا جاءت فكرة مقترح مشروع الإحياء الحضرى والعمرانى لمنطقة جبانة المماليك (والكلام لا يزال لمدير مشروع تطوير القاهرة التاريخية) هذا المشروع الذى يتم دراسته حاليا ويهدف إلى احياء منطقة جبانة المماليك عمرانيا وحضريا مع الحفاظ على الطابع المعمارى والتراثى الحسى بالمنطقة ورفع المستوى الثقافى والاجتماعى لأهالى المنطقة وربطهم بمسئولى الآثار من خلال التدشين لمشروعات خدمية لهم بالتعاون مع اجهزة الدولة الحكومية المعنية مع وضع منطقة جبانة المماليك على خريطة الزيارة العالمية كمسار زيارة سياحة بمدينة القاهرة المسجلة على قائمة التراث العالمى عام 1979م ، ويضيف أن أسباب اختيار منطقة جبانة المماليك يعود إلى أنها إحدى روائع العقل البشرى المبدع فى حجم وضخامة وثراء المجمعات المعمارية والمساجد والمدارس والخانقاوات والقباب بتلك المنطقة من العصر المملوكي، وعدم جدية مشروعات التطوير السابقة لتلك المنطقة لتأخذ فى الاعتبار الارتقاء بالمستوى الثقافى والاجتماعى لسكانيها بدلا من التفكير فى ازالة مقابرهم ومساكنهم لتحقيق اهداف استثمارية وقتية سريعة، وجود خلل واضح فى البنية المرفقية التحتية بمنطقة جبانة المماليك يستدعى التدخل العاجل لحمايتها والحفاظ عليها وتشمل مظاهر الخلل المرفقى (دورات المياه - مساكن العشوائيات -الكهرباء والمياه والصرف الصحى -الارضيات - المبانى - المحال التجارية )، انخفاض المستوى الثقافى والتعليمى لأغلبية سكان المقابر والجبانات والذى ينعكس على البيئة المحيطة من عشوائية المبانى واهمال الآثار لتصبح مقالب للقمامة والمخلفات ويحتاج ذلك لوضع برنامج توعية ومشاركة مجتمعية متكامل للارتقاء بأهالى منطقة جبانة المماليك ثقافيا وتعليميا واجتماعيا واقتصاديا. ويؤكد محمد عبد العزيز أن الهدف من تنفيذ المشروع هو تحويل منطقة «الجبانة الشرقية للقاهرة» الى منطقة تراثية سكنية بتطويرها وتنميتها مرفقيا وخدميا وعمرانيا ومجتمعيا وثقافيا وتراثيا وسياحيا مع ضرورة مراعاة البعد الدينى والاجتماعى والتاريخى عند التخطيط للمنطقة والبدء فى اعمال التطوير العمراني، وأيضا وضع منطقة الجبانات الشرقية لمدينة القاهرة على جداول المزارات السياحية بمدينة القاهرة وخريطة السياحة العالمية كجزء محورى بموقع التراث العالمي.،تأهيل وتطوير المبانى السكنية العشوائية عمرانيا داخل نطاق منطقة الدراسة «جبانة المماليك الشرقية»، وكذلك تحسين المستوى الاقتصادى لأهالى المنطقة من خلال إكسابهم مهارات فنية وحرفية بورش العمل وايجاد مناخ إبداعى لسكان الجبانات للحفاظ على الموروث الثقافى للمنطقة، فضلا عن اعداد خطة لإدارة وحماية وصيانة الموقع موضوع الدراسة لضمان استمرارية الحفاظ على معايير القيمة الاستثنائية العالمية والاصالة والسلامة بمنطقة جبانة المماليك، وكذلك اعداد دراسة لبحث وتحديد ملكيات الأراضى الفضاء بمنطقة الدراسة والاستعلام عن مالكى الأراضى واختيار الأراضى الفضاء المملوكة للدولة والتى يسهل استغلالها دون عوائق وزيارتها ورفعها وتوثيقها مساحيا بقاعدة بيانات محكمة وعرض مقترحات لتحديد الصالح منها لإعادة استخدامها وتوظيفها فى انشطة خدمية لسكان المنطقة وما حولها «قاعة مناسبات مدرسة لتعليم محو الامية وتعليم الكبار -حضانة للأطفال - مستوصف طبى - مركز شباب - مركز تدريب للحرف التقليدية اليدوية بالمنطقة»، ووضع برنامج تعليمى متكامل يشتمل على توعية ومشاركة مجتمعية تفاعلية مع أهالى المنطقة من الشرائح العمريةالمختلفة (الاطفال -الشباب -الكبار) بأهمية المنطقة وقيمتها التاريخية والحضارية والتراثية مما يساعد على توطيد ارتباط الأهالى بالأثر وزيادة معرفتهم بتاريخه . وأخيرا ،سيجري العمل على التنمية السياحية للمنطقة مما سيحسن من المستوى الثقافى والاقتصادى لسكان المنطقة مع انشاء مركز للزوار والسائحين الاجانب بالمنطقة يشتمل على مركز معلومات عن تراث المنطقة مجهز بأحدث وسائل التكنولوجيا والتقنيات الحديثة فى مجال توثيق التراث الإنسانى ويكون المركز مزودا بخدمات سياحية كالمطاعم والكافتيريات مصاحب معه مسار لزيارة المنطقة ومعالمها الاثرية بلوحات إرشادية مبسطة تروى قصصا وحكايات عن تراث منطقة الجبانات الشرقية لمدينة القاهرة.