في عام 1805 ثار الشعب المصري علي الوالي خورشيد باشا وأصر علي خلعه من حكم مصر, بعد أن انتشر في عهده الفساد والظلم والاعتداء علي الممتلكات والأرواح, فذهب زعماء الأمة إلي محمد علي, وقالوا له لا نريد خورشيد باشا حاكما علينا, ولا بد من عزله من الولاية, فقال ومن تريدونه أن يكون واليا, قالوا لا نرضي إلا بك وتكون واليا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير, فامتنع أولا ثم رضي, فأرسلوا إلي أحمد باشا خورشيد الخبر, فقال إني مولي من طرف السلطان فلا أعزل بأمر الفلاحين. وعاشت مصر أياما متتالية من الفوضي والمواجهات, بين الشعب وخورشيد باشا حتي جاء الفرمان العثماني, بالاستجابة لمطالب الشعب بإسقاط خورشيد وتعيين محمد علي واليا علي البلاد, استجابة لرغبة الشعب ونزولا علي إرادته. ولكن المأساة أن محمد علي انقلب علي القوي الوطنية ونقض عهوده معها, وأجهض ثورتها الطامحة إلي الاستقرار السياسي وعدالة الحكم, لتطلعه للاستئثار بالسلطة, فأستبعد من إدارة البلاد الزعماء الوطنيين الذين وقفوا بحسم ضد الحاكم السابق خورشيد باشا. ولتحقيق محمد علي لأطماعه السياسية بالجلوس منفردا علي عرش مصر, قام بنفي الزعيم عمر مكرم, وتشتيت عناصر القوي الوطنية, ثم التفت إلي المماليك وقضي علي أبرز قادتهم في مذبحة القلعة عام 1811 ونتيجة طول فترة حكم محمد علي لمصر, استطاع تحويل هذا البلد العظيم ذي الحضارة الشامخة إلي عزبة خاصة به, فسعي لنقل مصر إلي مظاهر النهضة الحديثة المعاصرة, معتبرا أن مصر أصبحت ملكية خاصة له ولأولاده من بعده, فبدأ يخطط لتأسيس الأسرة العلوية حتي ييسر لذريته حكم مصر بعد وفاته, علي غير رغبة الشعب المصري, الذي ثار في الأساس من أجل حريته, ونجح محمد علي في تنفيذ مخططه فحكم مصر من ذريته أولاده وأحفاده بألقاب متعددة, بدأت بلقب الوالي ثم الخديو ثم السلطان وأخيرا الملك, وبدأ ذلك بابنه إبراهيم باشا, ثم حفيدة عباس باشا الأول, ابن ولده طوسون باشا, ثم حكم مصر محمد سعيد باشا, وهو الابن الرابع لمحمد علي, وتلاه الخديو إسماعيل, وهو نجل إبراهيم باشا, ثم الخديو توفيق الابن الأكبر للخديو إسماعيل, ثم الخديو عباس حلمي الثاني, وهو نجل توفيق الأكبر, ثم السطان حسين كامل, وهو ابن الخديو إسماعيل, ثم السلطان فؤاد الأول ابن إسماعيل أيضا, الذي تولي الحكم عام 1917, ثم أصبح ملكا عام 1922, وبعده تولي الحكم ابنه الملك فاروق عام 1936, ورغم قيام ثورة 1952 للإطاحة بأسرة محمد علي من حكم مصر, إلا أن فاروق تنازل لإبنه الطفل آنذاك أحمد فؤاد وتشكلت لجنة الوصاية علي العرش حتي إعلان الجمهورية في مصر في 18 يونيو 1953, وبذلك انتهي عهد الأسرة العلوية رسميا, وبدلا من وصول الشعب المصري لمرحلة اختيار من يحكمه بديمقراطية وحرية, استمرت للأسف المرحلة الانتقالية حيث تم إدخال منطق التوريث بطريقة مختلفة علي نظام الحكم, وهو التوريث بالاختيار بمعني أن الرئيس جمال عبد الناصر يختار نائب رئيس الجمهورية, وهو الذي يتولي الرئاسة من بعده, وهكذا وبهذا المنطق في التوريث بالاختيار وصل الرئيس أنور السادات ومبارك إلي الحكم, رغم وجود استفتاء شعبي شكلي علي هذا الأمر. وهكذا فالمرحلة الانتقالية لم تبدأ من 11 فبراير 2011 والمقرر أن تنتهي في 30 يونيه 2012, ولكنها ترتبط بأزمنة تاريخية تمتد وتتواصل لأكثر من 200 سنة منذ إطاحة الشعب بخورشيد باشا, وحتي الإطاحة بمبارك ومستمرة حتي الآن, حيث لايزال قائما حرمان الشعب من اختيار من يحكمه بحرية وإرادة مطلقة, عدا التجربة الوحيدة في اختيار محمد علي, والتي انتهت بكارثة تأسيس الأسرة العلوية. وقد اختار مبارك خلال فترة حكمه التي طالت إلي30 عاما أن يعود بحكم مصر من التوريث بالاختيار إلي التوريث العائلي مرة أخري, حيث رفض بإصرار تعيين نائب رئيس جمهورية تنتقل له السلطة من بعده, وفضل التوريث العائلي الذي رسخه وتبناه محمد علي, فقام مبارك بتصعيد ابنه جمال ليكون من المرشحين بقوة لوراثته في حكم مصر, بمنطق أن مصر أصبحت ملكية خاصة له, وشمل ذلك قيامه بإدخال العديد من التعديلات الدستورية, والتي توقع الشعب المسالم أنها لدعم الديمقراطية بينما كانت في الأصل من أجل إتاحة الفرصة لابنه للوصول إلي الحكم, وهي الأوهام والأحلام التي قضت عليها ثورة المصريين الشرفاء العاشقين للحرية في25 يناير. واليوم ونحن علي أعتاب انتخابات الرئاسة المشتعلة في مصر, علينا أن نختار بحرص الرئيس الجديد الذي يستطيع أن ينهي المرحلة الانتقالية بحق, وينقل مصر لمرحلة الاستقرار السياسي, التي من أبرز ملامحها احترام الشفافية وحقوق الإنسان والعدالة والحرية, والأهم إقرار مبدأ تداول السلطة بمعناه الحقيقي دون احتكار أو خداع, لأننا نريد رئيسا لا يعمل لمصلحته الشخصية أو العائلية, بل يعمل لمصلحة مصر التي روت أرضها الطيبة دماء الشهداء. المزيد من مقالات د.عبد الغفار رشدى