أعتقد أن جيلا بأكمله علي الأقل لم يسمع بشعر صلاح عبد الصبور ولم يره، وربما لم يقرأ له. ولكن صلاح عبد الصبور الذي ولد في الثالث من مايو 1931 وتوفي في مساء مشئوم في الثالث عشر من أغسطس سنة 1981 هو واحد من أعظم الشعراء العرب. ولا أظن أنني أبالغ لو قلت إنه أعظم شاعر مصري بعد أحمد شوقي، وهو – مع أحمد عبد المعطي حجازي أطال الله في عمره- رائدا التجربة المصرية الخلاقة في الشعر الحر أو شعر التفعيلة. صحيح أنه كان إلي جانب صلاح وحجازي شعراء عاصروهما، وأسهموا معهما في حركة الشعر الحر، لكن صلاح يتميز عن الجميع بعمق الرؤية الشعرية وشمولها الذي يجمع بين الفيزيقي والميتافيزيقي، فتأملاته في عوالم الإنسان والطبيعة وما بعد الطبيعة، فضلا عن غنائياته ومسرحياته الشعرية تضعه في الصف الأول من شعراء العالم المحدثين، وتحفر له مكانا هو جدير به بحق بين الشعراء العالميين الذين تأثر بهم، مثل ت. إس. إليوت ولوركا وغيرهما، وكتب شعرا لا يقل في المكانة والقيمة عن شعرهم. ولذلك فأنا أضعه في القلة القليلة من شعراء العرب المحدثين الذين يمكن أن يتبوءوا مكانة عالية بجدارة. وليس ذلك لأنه غاص في الخاص إلي أن وصل إلي الجذر الإنساني العام، وإنما لأنه كان – إلي جانب ذلك- نصيرا للقيم الإنسانية التي تجعل من الكائن البشري إنسانا علي وجه الحقيقة. وكان من نتيجة ذلك أنه ظل يدافع عن قيمتي الحرية والعدل، بوصفهما النجمين اللذين يضيئان للإنسان رحلته في الكون أو العالم، وهو ما كان يدفعه إلي التشبث، شعريا، برمزية «السندباد» وحركته المتلهفة الدائمة والمتمردة التي لا تتوقف لاكتساب المزيد من المعرفة، فالسندباد كالإعصار، إن يهدأ يمت. هكذا عاش صلاح عبد الصبور سنواته الخمسين التي أنتج فيها ستة دواوين شعرية هي: الناس في بلادي (1957) وأقول لكم (1961) وأحلام الفارس القديم (1964) وتأملات في زمن جريح (1970) وشجر الليل (1973) والإبحار في الذاكرة (1977) وخمس مسرحيات، هي: مأساة الحلاج (1964) ومسافر ليل (1968) والأميرة تنتظر (1969) وليلي والمجنون (1971) وبعد أن يموت الملك (1975)، إلي جانب تسعة كتب تحمل إسهاماته النقدية (ماذا يبقي منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصري، أصوات العصر، وتبقي الكلمة، قراءة جديدة لشعرنا القديم، حتي نقهر الموت، حياتي في الشعر، رحلة علي الورق، علي مشارف الخمسين). فضلا عن ترجماته التي يتصدرها ما ترجمه من مسرح ت. إس. إليوت الذي ترك بعض بصماته علي مسرحية «مأساة الحلاج». وقد قامت الهيئة العامة للكتاب بنشر أعماله الكاملة. ولكن الذي أشرف علي هذه الطبعة لم يوثقها توثيقا علميا، فضلا عن أنه لم يكن علي إحاطة كاملة بأعمال صلاح عبد الصبور، فلم تضم الأعمال الكاملة كل ترجماته المسرحية، فضلا عن عدد من المقالات والقصائد التي لم ينشرها في دواوينه، أو نشرها بعد دواوينه. وآمل أن يأتي يوم ويكرم المجلس الأعلي للثقافة ذكري صلاح عبد الصبور بإصداره أعماله الكاملة موثقة ومحققة وكاملة فعلا، فصلاح عبد الصبور أكبر شاعر مصري بعد أحمد شوقي كما قلت. وقد مر شعر صلاح عبد الصبور بتحولات متعددة إلي أن انتهي إلي كونه رؤيا حكيم محزون في الحياة والأحياء، فقد بدأ شاعرا يساريا متعاطفا مع شعارات اليسار الشيوعي في مصر، وذلك علي نحو لم يخل من تأثر بالوجودية. ولذلك رحب نقاد اليسار الكبار في ذلك الزمان (محمود أمين العالم ولويس عوض وأحمد عباس صالح وغيرهم) بديوانه الأول «الناس في بلادي»، وهو عنوان إحدي قصائد الديوان التي يقول فيها: الناس في بلادي جارحون كالصقور غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب خطاهم تريد أن تسوخ في التراب ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون لكنهم بشر. ولكن صلاح عبد الصبور تخلي عن يساريته المتعاطفة مع الشيوعية المصرية، وانقلب عليها في أواخر 1956 عندما قرأ التفاصيل المخيفة لغزو الاتحاد السوڤيتي للمجر، وإسقاطه حكومة ناجي بالقوة. وكان هذا الغزو سببا في القطيعة ما بينه والماركسية اللينينية، ومن ثم سلبية نظرته إلي الشيوعية التي أهاجت عليه أصدقاءه الشيوعيين الذين لم يعد متعاطفا مع أفكارهم، خصوصا بعد أن ظهر واضحا للعيان أنه استبدل الوجودية بالماركسية اللينينية. وهو الأمر الذي تعد قصائد ديوانه الثاني «أقول لكم» دليلا عليه، حيث تحل الأنا الوجودية المتلفعة بالميتافيزيقا محل الأنا الثورية المهمومة بهموم الفقراء. وكان من الطبيعي أن تتحول چوقة الثناء علي الديوان الأول إلي چوقة هجوم علي الديوان الثاني، خصوصا ما انبني عليه الديوان الثاني من تجريد ولهجة نبوية («أقول لكم» نفسها مأخوذة من عبارة المسيح: «الحق أقول لكم»). ومن المؤكد أن قسوة الهجوم النقدي اليساري علي الديوان تركت أثرها علي صلاح عبد الصبور، لكن سلبية لويس عوض غير الجارحة لفتت نظر صلاح إلي أن التوازن بين الفكر والشعور قد اختل في الديوان، وأن الفكر تغلب علي «أقول لكم» وتضخم بخاصيتي التجريد والتقرير، ولذلك جاء الديوان الثالث «أحلام الفارس القديم» بأجمل صور التوازن بين الفكر والشعور علي نحو أعاد الحيوية إلي شعر صلاح ووصل بها إلي الذروة، خصوصا بعد أن نجح في تحويل الفكر إلي مشاعر متأملة، والشعور إلي وعي يجتلي ذاته، علي نحو تنقسم فيه الأنا إلي ذات ناظرة وذات منظور إليها. وقد ظل هذا التوازن مستمرا في شعر صلاح عبد الصبور ودواوينه اللاحقة التي فتحت من الآفاق الإبداعية ما كان مغلقا، ابتداء من «تأملات في زمن جريح» الذي يحمل أصداء هزيمة 1967 وأوجاعها إلي «شجر الليل» الذي تصل فيه شاعرية صلاح إلي ذروتها، ثم ديوان «الإبحار في الذاكرة» الذي جاء تجسيدا لرؤية عالمه في ذروة تشاؤمها وذروة رفضها للواقع الذي لا يتوقف عن تكرار إحباطاته إلي ما لانهاية: يتمرد بعض المكرورين علي التكرار يتحور بعض المكرورين إلي نقش فوق جدار أو نحت من أحجار لكن الريح.. الشمس.. الأمطار تسلمهم للتكرار ومن الواضح أن الإحباط من الوضع السياسي الاجتماعي قد تضافر مع الحيرة الميتافيزيقية التي لم يُنجِ صلاح الشاعر منها لجوءه إلي التصوف، والاختفاء وراء أقنعة أقطابه الذين كانوا ينتهون إما بالقتل كالحلاج أو رؤية الأنقاض السوداء للعالم، خصوصا بعد أن تحوّل العالم إلي غابة، أما الإنسان: الإنسان الإنسان عبر من أعوام ومضي لم يعرفه بشر حفر الحصباء، ونام وتغطي بالآلام... وكانت الرؤية السياسية الاجتماعية موازية للرؤيا الميتافيزيقية في شعره، وذلك علي نحو انتقل إلي مسرحياته التي يرمز البطل فيها دائما إلي المثقف الذي يواجه بقمع السلطة السياسية وما يتحالف معها من فقهاء السلطان أو المتاجرين بالدين حوله. والحق أنه رغم مرور أربعة وثلاثين عاما علي وفاته، فإن شعره يظل نابضا بالحياة معاصرا لهمومنا وحاملا لكل أوجاعنا وآلامنا وآمالنا. وفي هذا سر آخر من أسرار أصالته ومعاصرته في آن. لمزيد من مقالات جابر عصفور