من البداية، أيقظ أردوغان الأرواح الشريرة، ثم أطلقها فى دهاليز الأزمة السورية، هيأ لها الأجواء مع آخرين من بنى جلدتنا، لتمرح وترقص رقصة الهلاك، تمزقت سوريا إلى قطع، مئات الآلاف قتلوا، 14 مليون سورى بين لاجئ ونازح، ميليشيات الإرهاب الوحشية، تنشر الدمار والقتل فى مهد الحضارة والعروبة.. طبخة مسمومة أسهم فيها أردوغان بقسط وافر، حتى اقترب يوم، يتجرع فيه «السم السورى الزعاف»..! قديما قالت الجدات: «طباخ السم لازم يدوقوه»، هكذا يسير الرجل إلى مصيره، بعدما انقلب السحر على الساحر.. لكن كيف ذلك؟ التفاصيل كثيرة، وما يمكن قوله إنه منذ عام 2002، انتصر أردوغان فى معارك كثيرة، جعل بلاده ضمن الاقتصادات العشرين الأكبر، استثمر موقعها الجيوسياسى المهم، فى ملتقى قارات العالم القديم، طرق أبواب الاتحاد الأوروبى واستجدى حتى كلت يداه، فلم ييأس ارتد إلى الشرق، متبعا سياسة «تصفير المشكلات، أى إلغاءها»، البلاد العربية بالنسبة للأتراك هى الحديقة الخلفية، أو»العمق الاستراتيجي» - بتعبير الدكتور داود أوغلو رئيس الوزراء الحالى - توثقت العلاقات واتسعت مع عدد من الدول، وصلت إلى نوع من التحالف، خاصة مع نظام بشار الأسد. افتعل معارك كلامية وهمية مع إسرائيل فى العلن، حظيت بشعبية واسعة بين الجماهير العربية، فى الوقت نفسه يستورد الأسلحة من إسرائيل الحليف الاستراتيجى الأكثر موثوقية، بالنسبة لأنقرة برعاية أمريكية..! أردوغان ميكيافيللى الهوى والنهج، الغاية تبرر الوسيلة، المخادع ذئب يبكى تحت أقدام الراعى، أوهم الجميع بغير حقيقته، لايمكن انكار العامل النفسى، فالرجل مصاب بشبق السلطة، يعشق بريقها وصخبها، إلى حد النزق، كأنه يعالج جرحا قديما داميا فى أعماقه، أراد أن يصبح «سلطان الشرق الأوسط»، ولأن «الجروح التى لا تلتئم سرعان ما تعاود النزف وكأنها جراح الأمس»- كما قال ماركيز- فإن أحلام السلطنة أضحت كوابيس جرت على شعوب المنطقة ويلات وكوارث مفزعة، لاسيما بسقوط الإخوان المروع، صدمة هائلة لم يفق منها أردوغان حتى الآن، ترسبت مخاوفه من اقتداء الجيش التركى بنظيره المصرى، ساعة الخطر، انحيازا للأوطان لا الحكام، والواضح أن مخاوفه فى محلها.. وعلى إيقاع هذا السقوط، ساءت علاقات أنقرة مع معظم عواصم المنطقة، باستثناء قطر الجناح الثانى فى رعاية الإخوان.. فى الداخل انطلق «ذئب الأناضول» يدهس كل من يتحدى أحلامه، بمن فيهم حلفاؤه القدامى: جماعة فتح الله جولن، ورفيق دربه الرئيس السابق عبدالله جول، الأكراد، القوميين، الشباب فى مظاهرات تقسيم.. حتى أتته الضربة من حيث لايحتسب، ضاق الشعب التركى ذرعا، بسلطوية أردوغان الاستبدادية وسياساته الخارجية، لاسيما تجاه سوريا ومصر وليبيا ورعايته الجماعات الإرهابية، وللمرة الأولى، بعد ثلاث دورات من الانفراد بالحكم، فقد حزبه «العدالة والتنمية» الغالبية المطلقة، ليقف أمام خيارات لم يألفها: الدخول فى حكومة ائتلافية أو تأليف حكومة أقلية.. فاز الحزب نعم، لكنه فوز بطعم الهزيمة، مفتوح على كل الاحتمالات، أصبح الأكراد رقما صعبا فى الانتخابات انتزع حزبهم 13% من الأصوات، خصما من رصيد «العدالة والتنمية»، زلزال سياسى غير مسبوق، مازالت تداعياته مستمرة. المصائب لا تأتى فرادى، والظروف لم تكن رحيمة بأردوغان، فهو يخشى تراجع مكانة تركيا لمصلحة إيران، بعد اتفاقها النووى مع القوى الكبرى، وهو أمر مؤكد الحدوث، ومن قبل حاول جذب السعودية، بعيدا عن مصر والإمارات، دون»نجاح باهر»، سياسة اللعب على كل الحبال باتت لعبة مكشوفة، الدعوة إلى الحريات والقيم فى جانب، ثم دعم الإرهاب وتأجيج النزاعات الطائفية والعرقية فى جانب آخر، إعلان الحرب على «داعش»، ثم صب النار على رءوس الأكراد.. فوق هذا وذاك السعى لإفشال أى محاولة لإطفاء الحريق السورى والتلويح بغزو الشريط الحدودى وإعلان «منطقة عازلة» شمال سوريا، بالتزامن مع تسارع وتيرة الجهود الدولية والعربية لحل الأزمة، سيفضى إلى تأثر العلاقات مع روسياوإيران المصدر الرئيسى لإمدادات الطاقة إلى تركيا، وأيّ خفض فيها سيلحق ضررا عنيفا باقتصادها، ناهيك عن أن أمريكا وأوروبا تفضلان التصدى لداعش على الإطاحة ببشار الأسد حاليا. ينوء أردوغان بحمل التحديات المستجدة، يهرب إلى الأمام، محاولا فتح نافذة الفوز بالأغلبية المطلقة لحزبه، حال إجراء انتخابات مبكرة، بتوغل خاطف فى الأراضى السورية، عملية من هذا النوع تعقد الأوضاع أكثر فأكثر، وتحول تركيا إلى «محتلّ» مثل إسرائيل، داعش والقاعدة لن يستمر صمتهما طويلا، قد تكون النتيجة «هزيمة» تركية، أما الأخطر فهو اشتعال النزعة الانفصالية لدى الطائفة العلوية أوالأكراد الأتراك الساخطين، مما ينذر بتمزق تركيا نفسها، بعد تأكيد أردوغان أن السلام معهم مستحيل، وإشهاره السلاح ضد أكراد سوريا..إنه حريق تركى ينبعث من تحت دخان التجربة الإردوغانية «الغاربة»، فى منطقة تمر بحالة سيولة تفرز توازنات ومحاور وخرائط متغيرة. لقد تنبأ نعمان قور طولموش نائب رئيس الوزراء التركى، مايو الماضى، بتفتت الدول العربية فى سايكس-بيكو جديدة، لكن تصاريف القدر وضعت بلاده، فى منحدر خطر يهدد وحدتها ووجودها، بدلا من تحقيق حلم أردوغان فى استعادة الامبراطورية العثمانية الآفلة..! [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن