من بين عدد كبير من الإنتاجات الدرامية التى تعرض فى رمضان 2015، يحلق مسلسل «العهد.. الكلام المباح» فى منطقة شديدة الخصوصية، متفردة على مستوى الشكل الفنى والبناء الدرامى.. ومع الحلقات الأولى للمسلسل، انقسمت الآراء حول العمل الثالث الذى يجمع الثنائى، محمد أمين راضى، والمخرج خالد مرعى، بعد «نيران صديقة» و«السبع وصايا».. البعض ذهب إلى أن المسلسل بكل أجوائه مأخوذ عن المسلسل الأمريكى «لعبة العروش»، وذهب البعض الآخر إلى أن حتى فكرة «التتر» مسروقة، وهناك من أخذته أجواء العمل وتميز عناصره الفنية وطالب بأن ننتظر قليلًا حتى تتشكل ملامح المسلسل.. بالنسبة لى، فأنا لست من متابعى المسلسل الأمريكى المشهور، ولكنى من هذا الجيل الذى تربى على «الحدوتة»، والسير الشعبية التى كانت تغنى فى الموالد التى تقام فى قريتنا بشكل سنوى، ويتغنى فيها شعراء الربابة بقصص الحب المستحيلة، «الحبيب الذى يجتاز البحور والصحارى ليلبي طلبات والد المحبوبة»، أو «ذلك الذى يخوض الحروب ويحقق المستحيل»، وأيضًا قصص «الغدر، والخيانة، والطمع، والشهوة، والسعى للسلطة»، وهى السير التى كان يقوم أهل الكفور والقرى بتسجيلها لإعادة الاستماع إليها بعد انتهاء المولد ورحيل المنشدين، وأيضًا حواديت الجدة التى كانت تحمل من الرعب والإثارة الكثير، إضافة إلى ما تحمله الحضارات القديمة من صراعات بين الآلهة بعضها البعض وبين البشر فى جو من الأساطير يفوق أى خيال علمى، ولذلك لا تزال هذه الحضارات وتراثها الشعبى ملهمة لسينمات العالم، مثل «ألف ليلة وليلة» وعوالمها المسحورة. من هذا المنطلق تعاطيت مع مسلسل «العهد.. الكلام المباح»، فمنذ المشهد الأول أعادنى المسلسل وبقوة لتلك الحالة وهذه الأجواء، لا يعنينى كثيرًا إذا كان العمل مقتبس أو أن فكرته مسروقة، أهم شىء أن يمسنيا العمل وأتواصل معه.. فى «العهد» هناك الكثير من الرموز والدلالات، فهو ليس بالعمل السهل الذى يجلس المتلقى ليتابع أحداثه وهو يجرى مكالمة هاتفية أو يقوم ليصنع كوبًا من الشاى ويعود ليتابع الأحداث، العكس تماما فالمسلسل يحتاج إلى درجة كبيرة من التركيز والمجهود الذهنى فهو يعلّم المشاهد عدم الكسل فى التلقى. هناك الكفور الثلاث، حيث لا زمان محدد ولا مكان، ويتم عنونة الحلقات بأسماء مختلفة، مرة النبوءة بعنوان «سبع نوايات تمر، الوشم الشال الأحمر الكلام المباح، وثورة الشك، ودم مشعل_ (وهى الحلقة الأكثر اكتمالًا فى ظنى)_ الكفور الثلاثة ميثاقها العهد وقد يكون العهد عرفا متوارثا أو قانون وضعى تم الاتفاق عليه، ولكن الأساس فى الدراما هو ذلك الصراع الدائر بين الكفور_ (كفر النسوان، كفر نطاط الحيط، كفر القلعة)_ لاحظ تسميات الكفور «النسوان» وهو الكفر الذي يملك أسطورته الخاصة ولا تحكمه سوى النساء ودور الرجل، يقتصر على تخصيب من تحكم الكفر، لتنجب_ فى الحضارات القديمة وبداية الخليقة كانت المرأة تخرج للصيد والرجل يجلس في انتظارها مع الأطفال ولكن مع القبض علي ريا _حاكمة الكفر وتجسدها صبا مبارك _ والتى وضعت قوانينه يطلق عليه زوجها أكمل اسم باب الجنة ويطلب من نساء القرية أن يهجمن علي والده والذي رفض الاعتراف بنسبه لانه من علاقة غير شرعية ويطلب أكمل من كل امرأة أن تردد زوجتك نفسي وتنال من الرجل لتعوض حرمانها، ثم تطالبه برمى حلفان الطلاق .. وهكذا تتناوب عليه النساء_وهو ما يحمل دلالة لنفي الاخروكيف أن الحياة لا تستقيم مع تجاهل الاخر مهما كان الاختلاف. «القلعة» وهو الكفر المحصن والذى من المفترض أن سطوته أكبر،وجب أن نتوقف مع دلالة أن المكان الذي يجلس فيه الحاكم يطلق عليه المقبرة وهو ما قد يحمل اسقاطا علي أن كرسي الحكم قد يكون رمزا للعزة والسلطان _الفراعنة كانوا يبنون المقابر انطلاقا من ذلك ، أو قد تتحول لمقبرة حقيقية يدفن فيها الحاكم المتجبر _(راجع مصير جومر تجسدها شيرين رضا )_أما «نطاط الحيط» فهو الكفر الذى يلعب على الحبلين طبقًا لمصلحته. ومن خلال صراع الكفور ومن يحكمونها، يروى العمل «سيرة الديابة»، وهى المجموعة التى تتصارع وتتنافس ولا يقف بينهما حتى الدم رغم أنهم من أصل وفرع عائلة واحدة ويتحكم فيهم دستورهم المسمى بالعهد، والذى يتم اللعب فيه وتبديله طبقا للمصلحة والأقرب إلى السلطة، وقد يكون العهد أمل كاذب أو شئ يدعى أهل السلطة قدسيته. العمل يضم العديد من الخيوط الدرامية الخيالية والأقرب إلى الأسطورة والتراث الشعبى.. سحر_ تجسدها غادة عادل _ تلك الشخصية المبروكة التى تشفى المرضى بمجرد اللمس، ومهيب_ يجسده آسر ياسين _ الذى يتربى فى وسط الأفاعى ويقتل بمجرد اللمس، وشخصية «إستمنوها» تجسدها سلوى خطاب_ حارسة العهد وراعيته التى تموت وتظهر روحها الهائمة لمن ترغب فى أن يراها، وسوسن كبيرة الحشاشين_ تجسدها كندة علوش_ ابنة الضوى شيخ الكفر والذى يمثل السلطة الدينية_ يجسده بعبقرية فى الأداء النجم صبرى فواز، سندس_ تجسدها أروى جودة_ المغنية أو «العالمة» والتى تقع فى غرام علاء الشاعر الزنديق_ يجسده أحمد مجدى_ «وأبى» مقدر الأرواح يجسده محمد الشرنوبى_ جومر رمز السلطة والشهوة والخيانة_ تجسدها شيرين رضا، سجاج_ والتى تحاكى مصاصى الدماء والتى لا تتردد فى قتل والدتها وأشقائها وأخوالها، بل تعقد اتفاقا مع الشيطان من أجل السلطة تجسدها هنا شيحا تلك الثنائيات فى فلسفة الخلق والحياة والموت، الكره والحب، الإخلاص والخيانة، الجنة والنار.. وهى الثنائيات التى تم نسجها وبقوة فى دراما العمل، والتى تتصاعد أحداثه وتمتلئ بالمفاجآت فى كل حلقة جديدة.. ثورات يتم وأدها وتكميم أفواه أهل الكفور والسماح لهم فقط بترديد الكلام المباح الذي تسمح به السلطة الحاكمة فقط وهو _(سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)_واتفاقات تعقد على حساب الحب والمشاعر.. إزاحة البعض من السلطة وسيطرة صاحب السلطة الدينية، مهيب العائد إلى كفر القلعة من الجبل، والذى يستعين طوال الوقت بكبير الغفر يجسده بمهارة _وليد فواز_، والذى لا يتورع عن عقد اتفاقات لصالحه، سحر التى تحاول استعادة حبها، سوسن التى تدوس على حبها من أجل السلطة ولكى تؤكد أنها المنقذة والتى ستنقذ الكفور. «العهد الكلام المباح» عمل يستحق التوقف عنده كثيرًا، لأنه يحمل الكثير من الدلالات والرموز عن الحياة بكل معانيها ولكن من خلال أجواء أسطورية وشخوص، أجاد محمد أمين راضى رسمها، وصورة بصرية شديدة الثراء، لمدير تصوير موهوب هو أحمد يوسف، وأزياء لدينا نديم وديكورات، محمد أمين، ومونتاج لخالد سليم وموسيقى تصويرية مميزة للموسيقى هشام نزيه، تحاكى خصوصية العمل، بعض جملها مستوحى من تراث الإنسانية فى مزيج رائع، ونجوم متميزين بقيادة مخرج شديد الاحترافية هو خالد مرعى، والذى منحه عمله قبل ذلك ك«مونتير» القدرة على خلق إيقاع ينبع من تركيبة العمل حيث لا يوجد لحظة ملل فى ترتيب الأحداث، «العهد الكلام المباح « يبوح بالكثير رغم تكميم الافواه.