لا أدري ساعة نشر هذا العمود ماذا سوف يكون حال الجمعية التأسيسية للدستور; وعما إذا كان المنسحبون قد عادوا عن انسحابهم; أو أن المقاطعين لايزالون علي مقاطعتهم. ولكن القضية هنا ليست مرتبطة بحالة بعينها علي أهميتها القصوي, وإنما علي شكل من أشكال السلوك السياسي سائد بيننا, وهو ارتباط الاعتراض علي أمر ما بالانسحاب. وهو سلوك سياسي قديم ارتبط بالقضية الفلسطينية, وكان شائعا بين أهل الشام, حيث الانسحاب والمقاطعة جزء لا يتجزأ من الإدارة السياسية للأمور, وتصور أن عدم الوجود يؤدي إلي سحب الشرعية عن الموقف المضاد أو المعترض عليه. الفرضية هنا أن الشخص أو الجماعة المنسحبة أو المقاطعة لها من الثقل والشرعية بحيث لا تقوم قائمة لموضوع إلا مع وجودها; والحقيقة أنه لو كان الأمر كذلك حقا لسادت وجهة نظر المعترض أصلا ولما احتاج إلي انسحاب أو مقاطعة. السلوك عرفناه أيضا في مصر, وقاطع حزب الوفد وسعد زغلول لجنة الأشقياء التي وضعت دستور1923 الذي أصبح بعد ذلك قرة عين السياسة المصرية حتي قيام ثورة يوليو, فأقامت الدساتير علي الطريقة الناصرية المعروفة والتي والدهشة قائمة لم يعترض عليها أو ينسحب أو يقاطعها أحد!. وبعد ثورة يناير بات سلوك الانسحاب والمقاطعة شائعا مع كل موضوع وكل قضية; وأذكر أنه عندما أعلن تشكيل اللجنة الاستشارية تزاملت مع أحد أعضائها في برنامج تليفزيوني, وكانت دهشتي كبري عندما كان السؤال الأول للعضو الموقر في اللجنة متي سوف ينسحب منها, أي كان الحديث عن الانسحاب جاريا قبل أن تعمل اللجنة علي الإطلاق. والحقيقة أن إجابة الزميل كانت عاقلة للغاية, حيث قال إنه سوف يقوم بواجبه في اللجنة ولن ينسحب إلا عند الخلاف علي مسألة جوهرية مثل مد الفترة الانتقالية. إلي هنا كان الكلام معقولا, فهناك واجب ومسئولية وطنية في لحظة حرجة يجب أن يراعي, ولكن الانسحاب هو سلوك المواقف الكبري والاختلافات العظمي. ولكن ما حدث فعليا أن الزميل استقال من اللجنة بعد أيام من عملها, ولم يكن أحد قد تحدث عن مد الفترة الانتقالية, ولم يكن وحده علي أي حال, فقد دخل وخرج كثرة قبله وبعده. لم يكن أحد قادرا علي مقاومة كاميرات التليفزيون للحديث عن مواقفه المبدئية, ولم يكن أحد مستعدا لتجنيب تسجيل موقف بدلا من ممارسة السياسة التي تغير الأمور, ولا أحد كانت لديه قوة الملاحظة لما يئول إليه حال الوطن في ذلك الوقت والآن مع وضع الدستور. [email protected]