مازجة بين شخصيات حقيقية وأخري تاريخية بأسلوب لا يخلو من المتعة والتشويق; تستحضر ادروز بلغراد, الرواية الفائزة بجائزة االبوكرب العربية لهذا العام الصراع الدرزي الماروني منذ عام1840 حتي1845 . وصولا إلي أحداث1860 التي تعرض بعدها مئات من دروز جبل لبنان للنفي إلي بلغراد بعد اتهامهم بالضلوع في ارتكاب مذابح بحق مسيحيين مستعرضة لقطات من تاريخ البلقان والدولة العثمانية في محاولة غير مباشرة للإجابة علي التساؤلات بشأن حقيقة وجود طائفة درزية في تلك البقعة من شرق أوروبا وفي بلغراد تحديدا ومن أين جاءوا وكيف ارتحلوا إلي هناك, دون أن تغفل مشكلة الهوية والصراع الطائفي, بين الدروز والمسيحيين, وقد استطاع مؤلفها القاص المتميز ربيع جابر أن يعزف بمهارة شديدة علي أوتار التاريخ والإنسانية مازجا بين الطبيعة وكل ماهو إنساني من خلال حكاية حنا يعقوب و زوجته هيلانة قسطنطين وابنتهما بربارة و ما وقع للعائلة البيروتية الصغيرة من مصائب بسبب الحظ العاثر ووجود الرجل في المكان الخطأ في الساعة الخطأ. اأنا حنا يعقوب, مسيحي من بيروت, بيتي علي حائط كنيسة مار الياس الكاثوليكب.. عبارة ظل حنا يصرخ بها طوال اثنتي عشر عاما قضاها في المنفي سواء نجح في النطق بها أو ظلت مجرد صراخ صامت داخل عقله في محاولة منه ألا ينسي من هو ومن أين أتي وماذا خلف وراءه. وحنا هو مواطن مسيحي غير درزي يبيع البيض المسلوق بقرب الميناء حين كان رجال السلطات العثمانية يبحثون عن أي شخص لنفيه إلي البلقان بدلا من درزي تم إطلاق سراحه لأن والده تقدم بجرتين من ليرات ذهبية إلي إسماعيل باشا كي يعفو عن أحد أبنائه, ولم تنفع صرخات حنا بأنه ليس درزيا بل مسيحيا, وحين انتبه إليه القنصل الفرنسي الذي كان متواجدا في المكان, ضلله المترجم وأوهمه بأن حنا درزي يصرخ متباهيا بأنه قتل مسيحيا, مما أدي إلي ترحيله علي باخرة متجهة إلي بلغراد, وهكذا تحول حنا يعقوب إلي سليمان عز الدين, وعاني ما عاناه في سجون المنفي بالبلقان إلي جانب مواطنيه الذين بدأ بعضهم بمناداته االشيخ سليمان, من دون أن يعرف أي ذنب اقترف, فينتزع من عالمه وتفاصيله البسيطة ويضطر للعيش باسم وهوية دينية غير هويته, وتضيع خصوصيته بين السجناء و يعيش مصيرا تم تجهيزه لغيره. اأين العدل؟ هناك محابيس تحتي أيضا, لم أجب لئلا يعرفوا من صوتي المخنوق أنني أبكي, وأن الباب فتح لكن الظلام لم يتغير, أمد أطرافي مرة أخري ومثل حيوان لا يفهم أتشبث بالرجل المذعور,... هكذا يتألم حنا يعقوب في محبسه متسائلا عن ذنبه فيما يحدث مختبرا مشاعر عدة مابين الاغتراب والغربة والنفي, حيث يعكس المؤلف من خلاله عذابات الروح الإنسانية ومشاعرها المتناقضة المتأرجحة بين: التعب والراحة, الفرح والحنين, الأمل واليأس, الجوع والشبع, المرض والصحة, القوة والضعف, القنوط والمقاومة, الفقد والشوق مبرزا هشاشة الإنسان في ظل سطوة الواقع والقهر والعقاب, كما نجحت الرواية في توظيف جغرافية المكان التي اتسعت ما بين بيروت و بلغراد وأدرنة وكوسوفو والدانوب وصوفيا وحلب حيث برزت بشدة من خلال الوصف إلي جوار السرد في معمار الرواية التي مزجت بين الواقع والمتخيل بسلاسة مدهشة. وبعد اثنتي عشر عاما وعبر مشاركته بالخدمة في إحدي قوافل الحج ينجح حنا في الهرب ويعود إلي قريته التي ترك فيها زوجة شابة ذات السبعة عشر ربيعا وطفلة صغيرة لم تتجاوز الستة أشهر, آملا أن يتابع حياته, ليكتشف أن الزمن لم يتوقف أثناء غيابه, فالمرأة الشابة أصبحت كهولا والطفلة تحولت إلي شابة تتلمس خطواتها في عالم اليافعين, ويجد نفسه في مواجهة مأزق إنساني جديد غير مصدق أنه حقا عاد إلي حياته الحقيقية مهددا بالعيش في منفاه الداخلي بعد نجاحه في التحرر من المنفي الخارجي. يذكر أن لجنة تحكيم االبوكرب العربية لفتت في حيثيات منحها لجائزة للرواية, لتصويرها القوي لهشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق فترة تاريخية ماضية في لغة عالية الحساسية. وربيع جابر روائي وصحفي لبناني من مواليد بيروت عام1972, محرر الملحق الثقافي الأسبوعي اآفاقب في جريدة االحياةب منذ سنة2001, روايته الأولي سيد العتمةب حازت جائزة االناقدب للرواية سنة1992, منذ ذلك الوقت أصدر16 رواية منها: اشاي أسودب, البيت الأخير, يوسف الإنجليزيب ارحلة الغرناطي, بيريتوس: مدينة تحت الأرضب, واأمريكاب التي وصلت إلي القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام2010 صدرت عن المركز الثقافي العربي ببيروت