السيسي: حرصنا على تعزيز الحوار وتوفير بيئة عمل سليمة    رئيس اتحاد القبائل العربية يكشف أول سكان مدينة السيسي في سيناء    المجلس القومي للطفولة والأمومة يطلق "برلمان الطفل المصري"    البنك المركزي يمنح «onebank» الرخصة كأول بنك رقمي في مصر    لمن واجهوا عوائق في التحويلات.. الهجرة تعلن ضوابط الاستفادة من دفع الوديعة للمسجلين في مبادرة السيارات    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    شيخ الأزهر ينعى الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    فيديو صادم.. الشرطة الأمريكية تعتدي بوحشية على طالبة مؤيدة للفلسطينيين    موسكو ترفض اتهامات واشنطن للجيش الروسي باستخدام سلاح كيميائي في أوكرانيا    مصدر رفيع المستوى: تقدم إيجابي في مفاوضات الهدنة وسط اتصالات مصرية مكثفة    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    شوبير يكشف مفاجأة عاجلة حول مستجدات الخلاف بين كلوب ومحمد صلاح    بعد صفعة جولر.. ريال مدريد يخطف صفقة ذهبية جديدة من برشلونة    الداخلية: سحب 1393 رخصة لعدم وجود الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    بهدايا وبطاقات خصم.. ضبط 4 متهمين بالنصب على المواطنين بالقليوبية    تحرير 30 محضرًا تموينيًا في الأقصر    ضبط تاجر مخدرات بتهمة تصنيع وإعادة تدوير مخدر الحشيش في البحيرة    الأمن تكثف جهوده لكشف غموض مق.تل صغيرة بط.عنات نافذة في أسيوط    مصادر بالتعليم: أرقام جلوس طلاب الثانوية العامة خلال أيام    رئيس جامعة حلوان يكرم الطالب عبد الله أشرف    هل تلوين البيض في شم النسيم حرام.. «الإفتاء» تُجيب    وزيرة التضامن الاجتماعي تكرم دينا فؤاد عن مسلسل "حق عرب"    120 مشاركًا بالبرنامج التوعوي حول «السكتة الدماغية» بكلية طب قناة السويس    محافظ الجيزة يستجيب لحالة مريضة تعاني مشكلة صحية وتحتاج لإجراء عملية    سليمان: لا توجد مفاوضات مع بيراميدز بشأن الشناوي.. وسنلجأ للقضاء بعد أزمة بوطيب    الفشل الثالث.. رانجنيك يرفض عرض بايرن ويستمر مع النمسا    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    محامي بلحاج: انتهاء أزمة مستحقات الزمالك واللاعب.. والمجلس السابق السبب    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    منها إجازة عيد العمال وشم النسيم.. 11 يوما عطلة رسمية في شهر مايو 2024    وزير المالية: الخزانة تدعم مرتبات العاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بنحو 3 مليارات جنيه    رئيس جهاز بني سويف الجديدة يتابع مع مسئولي "المقاولون العرب" مشروعات المرافق    حادث غرق في إسرائيل.. إنقاذ 6 طلاب ابتلعتهم أمواج البحر الميت واستمرار البحث عن مفقودين    المفوضية الأوروبية تقدم حزمة مساعدات للبنان بقيمة مليار يورو حتى عام 2027    احذروا الطقس خلال الأيام القادمة.. ماذا سيحدث في الأسبوع الأخير من برمودة؟    كوارث في عمليات الانقاذ.. قفزة في عدد ضحايا انهيار جزء من طريق سريع في الصين    وزير الخارجية السعودي يدعو لوقف القتال في السودان وتغليب مصلحة الشعب    رئيس الوزراء: الحكومة المصرية مهتمة بتوسيع نطاق استثمارات كوريا الجنوبية    عزة أبواليزيد: مهرجان بردية يسعى لاستقطاب الشباب لميادين الإبداع |صور    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    100 مبدع يُوثق انجاز المرأة الأدبي في معرض أبو ظبي للكتاب    على طريقة نصر وبهاء .. هل تنجح إسعاد يونس في لم شمل العوضي وياسمين عبدالعزيز؟    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    وزير الري: ضرورة التزام الفلاحين بزراعة الأرز فقط في المناطق المقررة    سؤال برلماني للحكومة بشأن الآثار الجانبية ل "لقاح كورونا"    أبرزها تناول الفاكهة والخضراوات، نصائح مهمة للحفاظ على الصحة العامة للجسم (فيديو)    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْ سرق.. ابن تيمية؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 05 - 2015

عمرك بالعمر شفت واحد يسمونه باسم أمه فيسقطون اسمه الأصلى واسم أبيه وجده ليغدو ابن أمه فقط، بل لقد كان الاسم لجدته أيضاً.. ذلك هو الإمام الفقيه ابن تيمية وفى الأصل تقى الدين أحمد الذى التصق به الاسم منذ ذهب جده محمد بن الخضر لأداء فريضة الحج وله امرأة حامل، ومر فى طريقه على دِرب تيماء قرب تبوك، فرأى طفلة وضاءة الوجه كالملاك تخرج من خبائها وتتطلع نحوه، فلم ينس ضياءها طوال رحلته، فلما زار وطاف وقام بالمناسك وحمل لقب الحاج عائدًا إلى بلدته «حران» بشمال سوريا وجد امرأته قد وضعت له ابنة فما أن رآها حتى ناداها «يا تيمية» تيمُناً بالصغيرة الجميلة التى نظرت إليه... وتكبر تيمية الشام لتتزوج من الفقيه الشيخ عبدالحليم مجدالدين صاحب الكرسى بجامع دمشق لتلد له من الأبناء أربعة: «زين الدين» الذى عمل تاجرا وعاش إلى ما بعد وفاة الإمام، و«شرف الدين»، و«عبدالله»، وإمامنا «تقى الدين» الذى ولد يوم الاثنين 10 ربيع الأول 661ه الموافق 22 يناير 1263م فى «حران» لتدب أقدامه فى ربوعها حتى بلوغه السابعة عندما بدأت طلائع المغول تغزو الأفق لتدفع أمامها بقوافل هجرة أبناء الوطن إلى المجهول، وبينهم ركْب الفزع الذى يضم أسرة ابن تيمية تحمل متاعها وكتبها وعيالها ومصيرها إلى دمشق لتمتلئ نفس الصغير بإحساس مرير بالقهر وهو يبيت ويصحو فى مسيرة الجوع والإذلال بين النساء والأطفال والرجال المتدافعين، والمرضى المتساقطين، والكهول المنسحقين، والبكاء والعويل سحابة فوق الرءوس الزاحفة بلا مأوى، وأجساد الموتى تطأها أقدام النازحين المغيبين، فلا وقت لصلاة الميت، ولا رثاء لثكالى ويتامى وأرامل الصفوف، ولا مهلة لمواراة سوءات الأب والأخ والابن والأم فى التراب.. ويُقسم الصغير أنه حين يكبر لن يسمح بتكرار هذا الهوان، ولسوف يُشهر بيده السيف والقلم واللسان، ويناضل لرفعة هامة الإنسان، ولكنه فى ليالى اللوع والروع والجوع يدب اليأس فى الضلوع فما جدوى العلم والفقه اللذين استمع إلى دروسهما يلقيها والده الشيخ لتلامذته فى حران وها هو الواقع المرير يمضى بجميع المعارف إلى زوال!! و..كان من حسن طالع الوالد عبدالحليم أن وجد فى أرض المهجر مصدرا للرزق وموقعاً للتدريس فى الجامع الأموي، وكانت شهرته قد سبقته، ومن هنا ألحق ابنه أحمد بالكتّاب لحفظ القرآن وتلقى مبادئ اللغة والحساب والخط، ويشتهر الصغير كوكبا دريّاً فى فلك شهرة الوالد العالِم الكبير لتلاحق الأم المتفقهة غزيرة العلم واعظة النساء والرجال دراسة الابن ومأكله، معتنية بمظهره ليبدو فى أفضل صورة بين زملائه، مراجعة لدروسه التى يتنبأ كل من حوله بتفوقه فيها بعدما شاع عنه ملكة حفظ خارقة حتى أن أحد العلماء الكبار ب«حلب» قدم إلى دمشق ليسأل عن صبى يُدعى «ابن تيمية» بلغت شهرته الآفاق فى قوة الذاكرة والحفظ، وما أن رآه حتى طلب منه أن يمسح ما على اللوح من كلام ليملى عليه غيره، ففعل الموهوب، فأملى عليه من أحاديث الرسول ثلاثة عشر حديثا، فكتبها الصغير بخط جميل، فقام الشيخ بمسحها ليُسمعه إيّاها غيابياً فسمّعها له، فعاد ليُملى عليه العديد من الأسانيد فكتبها صحيحة، ليسمِّعها بعدها عن ظهر قلب، وغادر العالِم القادم من حلب نواة العالِم القادم فى دمشق قائلا: «إن عاش الصبى فسيكون له شأن عظيم فلم يجد الزمان بمثله».. وقد كان!
ويفتح الابن خزائن كتبه التى ورثها عن جده شيخ الإسلام مجد الدين الحرانى وكان قد حملها الوالد معه فى مسيرة الهجرة ليتجول صبى المعارف بين صفحات التفسير والحديث وعلوم اللغة وآدابها والسير والتصوف والتاريخ وعلوم الفقه والأحياء والفلسفة والكلام والفلك، وجميع ما دوَّنه السلف أو قام بترجمته من ألوان المعرفة.. ولم تعد ساحات اللعب مع الأقران مغنماً فقد ضيَّع أوقات فراغه وإن لم تضع فى القراءة ليتوقف أمام قضية فلسفية، أو بيت من الشِعر أو مسألة فقهية، ليسأل الأب الذى يشرح ويقارن ويستشهد ليثير خيال الصبى ويستنفره لدائرة المناظرة والحوار، ويعلمه كيف تُساق الحجج والبراهين، والطرق المثالية للإقناع.. ويشب ابن تيمية عن الطوق ليناظر الكبار بعدما تلقن فقه ابن حنبل، وأتقن تفسير القرين، وحفظ الكثير من أحاديث الرسول، ودرس فقه الأئمة الأربعة، وأصول الفقه فى شتى المذاهب، ودرس بتوسع فقه الشيعة.. بعدها لقنه الأب على الإفتاء وهو يقترب من العشرين، فأفتى تحت مظلته بفتاوى صائبة، ليظل يتعهده ويناقشه حتى اطمأن قلبه فتركه يتصدى بمفرده فى ميدان الفتوى، إلا أنه لاحظ حدته عندما تأخذه الحمية حين يعتقد أنه على الحق فلا يبالى بمن يجادله، ومن هنا فقد هاجم عالمِا متحيزًا لمذهب الشافعى بقوله: «هذا عناد منك وجهل بالسُنَّة» فما كان من والده إلا أن نهره ووصمه بقلة الأدب، حتى ولو كان على صواب، لعدم احترامه من هو أكبر منه سناً، فبكى ندماً وهو ابن العشرين وذهب إلى العَالِم الذى بلغ الخمسين يعتذر له ويسترضيه حتى رضي، ولأنه كان مدركاً لظاهرة الحدة التى تعتريه إلى حد التجريح كلما أحس أن غيره متمسك بالخطأ ذهب يبكى على كتف أمه لتنصحه بالتزام السُنّة ليجادل بالتى هى أحسن..
ورغم بهائه واكتمال مظهر رجولة مُهابة الطلعة صورته فيها ربعة فى القوام متين البنيان لا بالطويل كالجِمال ولا بالقصير القريب من الأرض، أبيض الوجه فاحم سواد الرأس واللحية، ينسدل شعره الناعم على رقبته كالفرسان، جهير الصوت، عريض المنكبين، لامع عينين تتكلمان كأنهما وحدهما لسانان ناطقان، فصيح البيان، نشيط الكيان، سمح السمات، جميل القسمات، فى وجهه بشاشة مرحبة بالموجود وما هو آت ومكتوب ولم يزل بعد عند علام الغيوب، وإن تمشت على وجهه من حين لآخر سحابة شاردة فيها من الكدر والحزن الدفين الكثير.. رغم تلك الملكات فقد فضَلَ شيخ الإسلام ابن تيمية حياة العزوبية مثله مثل كوكبة من علماء نذروا أنفسهم لطلب العلم وفضلوا الخلود بالكتب والأفكار مثل الطبرى الذى اشتهر بحسن طلعته ودماثة خلقه وحرصه على إقامة أركان الإسلام، والزمخشرى المفسر والنحوى الذى كان يفاخر بعزوبيته مادحاً بنات أفكاره وبنين مؤلفاته، والمعلم الفيلسوف المسلم الفارابى الهائم على ضفاف أنهار دمشق عازفا عن الدنيا إلا من آلة موسيقية، وابن النفيس أشهر أطباء المسلمين الذى عاش وحيدا عازباً بلا شريكة ولا نسل يحمل اسمه.. ولقد عاش ابن تيمية حتى 67 سنة وعدة أشهر بلا زوجة تؤنسه أو ولد تُقر به عينه، فلم تكن حياته تؤهله أبدًا ليكون زوجاً ورب أسرة، فالشيخ الجليل عاش أيامه على حد نصل السكين من المعارك المتصلة التى حارب فيها بالقلم واللسان والسيف، وعندما كان أوارها يهدأ يعود لإشعالها من جديد، من خلال رأى يخالف به المألوف، أو حدة يصدم بها أحد المجادلين، أو حملة يشنها على ما يجد فيه بدعة أو مخالفة للسُنَّة.. وما أكثر ما شاعت البدع والخروج على السُنة فى ذلك الزمان.. وكانت أمامه عشرات المعارك.. التتار الذين مزقوا البلاد الإسلامية، والصليبيون الذين يحلمون بامتلاك أرض المسلمين، ودور اللهو والخمارات التى أصبحت أكثر من عدد المدارس، والمشعوذون المدعون انتسابهم للصوفية، والأمراء من المماليك المجلوبون الذين يتعاملون فيما بينهم بقانون سرى خاص غير الشريعة الإسلامية توارثوه عن جنكيز خان.. و..الدويلات الإسلامية تتطاحن فيما بينها لتشتد العداوات ويشق سكين الخيانة الأرض وكأنها الزبد لتتناثر أشلاء الحروب.. ويتمعن ابن تيمية فى نهج الطريق الذى سيسلكه، وأى المعارك ستكون نقطة البداية والمنطلق للتصادم الذى لابد منه على جميع الأصعدة، ليناله كل الأذي، وتستضيفه سجون القلاع فى القاهرة والإسكندرية ودمشق مرتين.. فهل يصلح بالله رجل مثله لأن يكون زوجاً ورب أسرة مستقرة تعيش فى التبات والنبات وتخلف الصبيان والبنات! وأى زوجة حديدية كانت ستتحمل كل هذا التوتر والعذاب وحدّة الكلام، والعيش على حافة الهاوية مع زوج كيانه السفر والترحال والمعارك والسجن وطلب العلم وجدل الفتاوى والنضال على جميع الجبهات، وحتى حياة الرفاهية لم تكن متاحة هى الأخرى لأية زوجة على وجه الأرض، فالشيخ على الدوام رافض أخذ راتب من أمير، وما كان يطلب غداء ولا عشاء فى يومه، وما كانت الدنيا منه على بال، وكان أخوه يقوم بمصالحه بحكم قرابة الدم..
و..لم يكد أحمد تقى الدين أن يحتل مكان أبيه فى دار الحديث والجامع الأموى بعد عام واحد من وفاة الأب حتى أنكره بعض العلماء من كبار السن واتهموه بالغرور لأنه يلقى دروسه دون الرجوع إلى أوراق أو كتب، ويتنقل حرًا طليقًا من فنن إلى فنن، فما حاجته إلى سطور يستعيدها، وهو الذى يحفظ كل ما يمكن الرجوع إليه فى الكتب بذهنه الحاضر، ونفسه الصافية، وثراء معرفته ليقول عنه ابن دقيق العيد أعلم أهل العصر بالحديث النبوى وكان من مخالفى ابن تيمية فى المذهب والرأى: «جمع العلوم كلها يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد»، وقال عنه الشيخ مصطفى عبدالرازق فى كتابه «أعلام الفكر الإسلامى»: «كان ابن تيمية يعتقد أن المسلمين لن يهلكوا من عدو يسلط عليهم من غيرهم، وإنما يكون هلاكهم إن حلّ موعده نابعاً منهم بسبب الخلاف والفرقة، ولهذا كرس حياته لجمع شمل المسلمين، والقضاء على الأسباب التى تجعل بأسهم بينهم، وبذلك اجتمع على ابن تيمية المتكلمون والصوفية والفقهاء يكيدون له ويحسدونه، ويتبرمون بتنقيصه لأقدار العلماء وتجريحه لآرائهم».. وإذا ما كان البعض يلصق ب«ابن تيمية» تهمة التشدد فهو منها براء، ولقد استطاع بعض ذوى الميول والأهواء من الجماعات الإسلامية أن يغيروا فى بعض ما قاله الرجل ليستخلصوا من ذلك آراء وأفكار نسبوها إلى الرجل المظلوم بعد أن فبركوها، وأوّلوا بعضها إلى غير ما تحمله نصوص هذا الإمام المفترى عليه فى عصره وعصرنا مما يحتاج إلى المنصفين الدارسين لتوضيح حقيقة فكره للناس وإنصافه من التهم التى تشوه ذكراه.. وفى كتاب «مجموع الفتاوى» فى الجزء الخاص بالجهاد وهو الكتاب الذى اعتمد عليه المتشددون من الجماعات الإسلامية يقول الرجل فى باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قولا يختلف تماما عن نهج التطرف والتشدد، فقد أفتى بأنه لابد فيه من الرِفق، ويستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق فى شىء إلا زانه، ولا كان العنف فى شيء إلا شانه»، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: «إن الله رفيق يحب الرفق فى الأمر كله ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف» ولهذا يقول ابن تيمية: «ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر» ويقول: «ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه»، ويقول: «وإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البرّ بل يؤذون الناس سقط التغيير باللسان فى هذه الحالة وبقى بالقلب».. وكان يرى أن الدولة يجب أن تتدخل أحيانا لتقييد حرية الفرد فى التملك والعمل، إذا ما وقعت مضرّة من إطلاق حريته وفى هذا جاءت فتواه: «إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم أو بنائهم، صار هذا العمل واجباً عليهم يجبرهم ولى الأمر عليه، وإذا امتنعوا عنه يعوض المثل»، وأجاز الإمام أن يفرض على الأغنياء ما لابد من دفعه لإعداد الجند والسلاح حماية للبلاد والإنفاق على المصالح العامة، ولا يتحمل الفقراء من ذلك شيئا فى وقت هناك فى الأمة أغنياء وهذا من باب العدل الذى يجب أن يكون أساس الحكم، وذهب ابن تيمية فى ذلك إلى حد القول: «إن الله يقوّم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقوم الظالمة وإن كانت مسلمة»، وهو الذى كان كارهاً التعصب لرأى اجتهادى لأى من الأئمة، ويوضح أضرار ذلك ومخاطره بقوله: «من تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو أشبه بأهل الأهواء».. ويقرر بأن الحدود الشرعية مسئولية الولاة وحدهم، وليست من حق الأفراد، وتميز فى عصره بحرصه على تحرير المسلم من التعصب لآراء الرجال، وظل أميناً متمسكاً بما علم من دين الله عز وجل، فلم يكفّر مسلما من أهل القبلة بذنب ارتكبه.. ابن تيمية الذى قال عنه رئيس القضاء ابن الحريرى «إن لم يكن شيخ الإسلام فمن هو؟!!.. وقد اعتبره العلماء مجدد القرن الثامن الهجرى لأن علمه وتاريخه وفكره من الشواهد على ذلك، كما شهد ابن دقيق، والإمام الذهبى وغيرهما، ووصفوا علمه ببحر لا ساحل له.. ولقد رأى ابن تيمية أن الطلاق ثلاثا فى عبارة واحدة أو فى مجلس واحد إنما هو طلقة واحدة.. وأفتى بأن الحشيش أخبث من الخمر وهى مصنوعة من ورق القنب وما شابهها من المخدرات المُسكرة وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» ولم يحدد شكل المسكر ولا هيأته، فالسائل فيه كالجامد.. وأفتى بعدم وقوع طلاق المُكره.. وأن طلاق السكران لا يقع.. وقبول شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة.. وأفتى للمسلم تبعاً لنهى رسول الله بعدم السجود لغير الله أو أن يحنى ظهره أو رأسه لأحد، أو أن يقبِّل يد أحد.. وجواز التيمم مع وجود الماء للوضوء لمن خاف فوات العيد أو الجمعة أو وقت صلاة أخرى من الصلوات المكتوبة.. وجواز توريث المسلم من الذمي.. والمرأة إذا لم يمكنها الاغتسال فى البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره لها أن تتيمم وتصلي.. وقصر الصلاة فى كل ما يسمى سفرا.. وكل شرط لا يخالف الشريعة أو مقصود العقد، واجب الاحترام كاشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها، وألاّ ينقلها من بلدها ونحو ذلك... وقال فى الحكم عن تقبيل العامة لحجر يقال إن عليه أثر قدم النبى: «ليس أثرًا لقدم الرسول ولا لأحد الأنبياء ولا يضاف إلى الشريعة، ولا جواز لتقبيله ولا التمسح به، فلا شيء يقبل فى الأرض ويتمسح به سوى الحجر الأسود، والركنين اليمانيين بالبيت العتيق»..
و..يعود التتار إلى الشام فى عام 699ه والشيخ تقى الدين فى التاسعة والثلاثين ودمشق مشغولة بالحوار حول صفات الله تعالى والأسماء الحسنى، وكان زلزال التتار قد هز البلاد من قبل أن يولد ابن تيمية بسنوات قلائل فقتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا الأرحام ومزقوا الأجنة.. وهكذا التتار الذين ملكوا أرض المسلمين فى العراق ثم استولوا على حلب ودمشق وسائر بلاد الشام حتى غزة، وأينما ساروا يفسدون فى الأرض بلا رحمة، ويرسل ملكهم «هولاكو» إلى «قطز» سلطان مصر والشام سفراءه يحملون الأمر بالتسليم: «فأى أرض تأويكم، وأى طريق ينجيكم، وأى بلاد تحميكم، فما لكم من سيوفنا خلاص»، ويجتمع السلطان بمجلس العلماء وأهل المشورة ليرسلوا ردهم الجماعى بالجهاد الذى أسقط جيش التتار ليلوذ بالفرار.. وها هى غزوة جديدة للتتار فى عهد الناصر محمد بن قلاوون سلطان مصر والشام الذى أفتاه العلماء والفقهاء والقضاة بضرورة قتال التتار إخوان ودواعش القرن السابع الهجرى الذين يدينون بالإسلام لكنهم يعدون من البغاة الواجب قتالهم شرعا.. ويطوف ابن تيمية بطرقات دمشق يستنفر الخلق للجهاد وغلق الأبواب بعدما علم أن ولاة الأمر قد سارعوا إلى معسكر التتار الغزاة يعلنون الولاء لسلطانهم «قازان» بحجة أنه سلطان مسلم، ولا يجد تقى الدين مفرًا من الذهاب إليه على رأس وفد شعبى ليتأثر التترى بهيبة ابن تيمية الشيخ، وكلما ترجم له المترجم عبارة للشيخ يلين معها قلب قازان على الرغم من سطوته وجبروته فيقربه له أثناء حديثه معه حتى قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان المصغى بكل جوانحه ويحصل تقى الدين على وثيقة الأمان من قازان الذى يطلب من الشيخ الدعاء، فدعا له بقوله: «اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فأن تنصره، وإن كان للمُلك والدنيا فآخذه»، فأمَّن السلطان على الدعاء، بل أطلق جميع الأسرى من المسلمين والمسيحيين واليهود تلبية لرجاء الأمان من الشيخ الذى قال فى طلبه إن كلهم من أهل الشام، وهم أهل ذمة، فى ذمة الله ورسوله.. ويشهد ابن تيمية بعدها المعركة الفاصلة ضد المغول بعد معركة «عين جالوت» ويشارك فى قتال الصفوف.. ويغضب الشيخ من تزلف السلطان فى القاهرة للصوفية فتكلم فيها معترضا حتى أنه كتب شعرا ساخرا فى المتصوفة الذين كانوا يسمون أنفسهم الفقراء فقال على لسانهم أبياتاً أصبحت تغنى استخفافا على الدفوف فى حلقات الذكر:
والله ما فقرنا اختيار وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى وأكلنا ما له عيار
تسمع منا إذا اجتمعنا.. حقيقة كلها فشار «بمعنى فشر»
أما العلماء فقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها عندما أفتى ابن تيمية بأن الطلاق ثلاثا فى عبارة واحدة هو طلقة واحدة، وأوغروا صدر السلطان الذى أصدر أمره بمنع الشيخ من الفتوى، ثم حبسه فى قلعة دمشق فبدأ ابن تيمية يكتب العلم ويصنفه: ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويقول: «قد فتح الله عليّ فى الحصن من معانى القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتى فى غير معانى القرآن».. وإن كان ابن تيمية لا يحق له الندم فهو أبدا لم يضيع وقته يوماً بعدما بلغت مؤلفاته 350 مؤلفا كان منها 60 مجلدا وأربع عشرة ربطة كراريس كتبها وحدها فى السجن لتظل تراثا ضخما تتناقله الأجيال.. وهو الذى جاء فى سيل أقواله الحِكم والمواعظ التى منها: «القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه فى التوبة، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم، وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة»... و«من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس»، و«القلوب آنية الله فى أرضه، فأحبه إليه أرقها، وأصلبها، وأصفاها».. و«أبعد القلوب عن الله القلب القاسي» و«أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» و«خلقت النار لإذابة القلوب القاسية» و«إذا قسا القلب قحطت العين» و«اقتصاد فى سنّة خير من اجتهاد فى بدعة» و«تأملت أنفع الدعاء فرأيته فى الفاتحة فى (إياك نعبد وإياك نستعين)» و«الهجر الجميل: هجر بلا أذى، والصفح الجميل: صفح بلا عتاب، والصبر الجميل: صبر بلا شكوى» و«من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم» و«الرضا.. باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وبستان العارفين».
ولا يبكى شيخنا إلا عند وفاة أمه بعد عودته إلى دمشق من القاهرة بأعوام قلائل، وقد عاشت ترعاه، وتوجهه إلى الرفق فى الخصومة، ورحلت وفى قلبها غصّة فقد ظلت تأمل كأم من ابنها نسلا يجعلها جدّة، لكنها كانت تؤجل حلمها متمثلة بحديث الفاروق عمر بن الخطاب «تفقهوا قبل أن تسودوا» بما معناه تعلموا الفقه قبل أن تزوجوا فتصيروا أرباب بيوت فتشغلوا بالزاواج والعيال عن العلم.. لقد احتسب الابن أمه عند الله، ولكنه كان كلما عاد إلى البيت ذرف عليها الدموع من جديد حتى لتخضل لحيته التى لم يكن قد غزتها بعد الشعرات البيض.. ويبكى الإمام عندما يُمنع فى سجنه عن الكتابة ولا يُترك لديه دواة ولا قلم ولا ورق، فيقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.. ويمسح دموعه ويعود مبتسما ليقول: ما يصنع أعدائى بي؟ إن جنتى وبستانى فى صدرى أين رحت فهى معى لا تفارقني.. إن حبسى خلوة، وقتلى شهادة، وإخراجى من بلدى سياحة».. ويشير إلى سجنه قائلا: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى».. ويظل ابن تيمية عامين ممنوعا من القراءة والكتابة لا يستطيع أن يكتب إلا بالفحم على رقع صغيرة من الورق تُهرب إليه!.. ويحتفظ التاريخ بهذه الرقع.. وتفيض روحه فى ليلة الاثنين والعشرين من ذى القعدة 768ه وهو يتلو «إن المتقين فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر».. ويسمع الناس بالخبر فتسير من خلفه جنازة حاشدة بلغت خمسمائة ألف مودع وزيادة.. لتتلى بعدها قصائد الرثاء التى منها ما قاله الشاعر زين الدين الوردى:
تقى الدين أحمد خير جد خُروق المعضلات به تُخاط
توفى وهو محبوس فريد وليس له إلى الدنيا انبساط
ولو حضروا حين قضى لألقوا ملائكة النعيم به أحاطوا
فتى فى علمه أضحى فريدا وحل المشكلات به يناط
ويدعى أهل التطرف والإرهاب بأن ابن تيمية من ممتلكاتهم الخاصة حصريًا بعد إعادة تجهيزه زورا تبعا لنظرتهم الضيقة المروعة للبشر، بينما الإمام الجليل الواضح المفترى عليه الذى كان يدعو إلى التسامح والعدل والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة «بتاعنا كلنا».

[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.