شرحت لي دينا في سلسلة رسائل قصيرة المواصفات المطلوبة. توالت رسائل الواتساب عبر المحيط الأطلنطي الذي يفصل بيننا، وبدأنا نناقش المسألة. الأمر على بساطته البادية شديد التعقيد: «يارا عاوزة فستان». «أبيض طبعا». «ولو فيه خيوط ألوان؟» «لأ أبيض من غير أي لون». «طيب...هادوّر». كنت مرهقة أحاول بلا جدوى استعادة طاقتي المعتادة على التسوق في مدينتي المفضلة نيويورك. أُفضل أن أمضي زيارتي الحالية متجولة بلا هدف في الشوارع المحيطة بجامعة كولوميا وبالقرب من نهر هادسون عن الذهاب إلى وسط المدينة المزدحم بالمتسوقين. ولكني وعدت دينا بأني سأبحث عن الفستان. كما أني وعدت يارا من قبل بالعديد من الأشياء. وعدتها ذات مرة بنجوم تملأ سقف غرفتها..تذكرها بتلك النجوم التي كنا نستلقي تحت سمائها دون سقف في رحلتنا إلى الصحراء البيضاء العام الماضي. جئت لها بالكثير من النجوم الملونة..لكني لم أستطع الوفاء بوعدي.في متجري المفضل بالداون تاون أشحذ بقايا موهبتي في التسوق، وأتجول ببصري بين الملابس المتراصة باحثة عما يمكن أن يناسبها. تستوقفني أيضا بعض الملابس التي يمكن أن تناسبني.«هتفضلي تلبسي ألوان؟»سألني الصديق وأنا في طريقي مرة أخرى إلى سوق العمل، نجتر نقاشا معاديا حول أعراف الملابس الرسمية «أسود..كحلي..رمادي..أو أبيض». أكرر ما قلته مرارا من قبل عن المُسلمات والقوالب الجاهزة وقواميس الملابس الرسمية..قاموسي الرسمي طالما احتوى الكثير جدا من الألوان..لا شأن لي أنا إن اختار الآخرون الأحوط وتمسكوا بالتعريفات التقليدية في قواميسهم ودواليب ملابسهم وأحزانهم وأفراحهم. «الأفراح!» كم من فرح ستُحرم يارا منه ومن رؤية صديقة لنا وهي ترتدي الأبيض؟ عاهدت نفسي قبل أيام أني سأعود لتلبية نداءات الفرح. مر ما يقرب من العام على غيابها الإجباري. مازالت تلك الغصة تنتابني كلما تلقيت دعوة فرح من أصدقائنا المشتركين. أدرك أن لا ذنب لهم ولا لي ولا معنى لمزيد من المصادرة على أسباب الفرح. حين كانت تصلني الدعوة كنت أتمنى أن أختفي فحسب حتى لا اضطر للموازنة بين حقي في الفرح وقدرها من الحزن. ثم صار يداهمني المرض. في الصيف الماضي حال المرض بيني وبين تلبية عشرات الدعوات: حفل زفاف..عيد ميلاد..وداع صديق آخر سيذهب في سفر طويل..سهرة بلا سبب سوى الحاجة للونس والبهجة. الغريب أن لا مرض حال بيني وبين أي عزاء في موجة الفقد التي اجتاحت دوائري. منذ الصيف الماضي دأبتُ في عزاءات موسم الهزيمة على ارتداء الأبيض. «تعبت». الآن تبدو لي المهمة البسيطة شبه مستحيلة. لا فستان أبيض مناسب لها هنا. هناك الكثير من الفساتين التي تشبه فستانها الأبيض الأنيق الذي أعرفه جيدا.. كانت ترتديه قبل عامين في تلك الصورة التي تحمل فيها شهادة التكريم ودرع الجائزة..بحثت طويلا عن تلك الصورة التي ستنقل الكثير من روحها والكثير من صراخي. بدل من أن أدور أصرخ في كل من أراه «انظروا إليها»..درت أصرخ في وسائل التواصل الاجتماعي بنشر تلك الصورة. مرت بضعة شهور قبل أن تغزو صورة أخرى لها وسائل التواصل الاجتماعي، في ثوب أبيض آخر..مختلف جدا..تتدلى من رقبتها حلية لرمز الشجاعة في التراث الإفريقي..وتضحك. «مش مهم». سأحاول أن أبحث عن شيء آخر أتي به إليها..سأكتب لها. هي تحب خطاباتي وحكاياتي. سأحكي لها عن جمال الألوان في ربيع نيويورك..وعن قوس قزح فاجأني وأنعش في قلبي شغفا..أعاد لي بعض من ثقة مفقودة في جدوى الحياة. سأحكي لها أن شهاب اصطحبني إلى ذلك البار الألماني في نيويورك وأنني أخيرا توقفت عن مشاكسته باللوم: «اشمعنى انت خرجت وصدقّوا انك ما كنتش في المظاهرة وفضلوا حاجزين يارا في القسم!؟ انتو مش كنتم مع بعض!؟ بقى يعني هي روعت المواطنين وأنت لأ!؟» سأحكي لها أني بحثت عن فستان يمكن أن يناسبها دون أن يلقى مصير النجوم الملونة ولكني لم أوفق. «دينا..أنا لاقيت الفستان!» كنت أهم بمغادرة المتجر العملاق حين وجدته ينظر إلى. في جولة بصرية سابقة كان موجودا في لونين أسود وزهري فحسب. لكن ها هو أمامي الآن: «أبيض سادة..بسيط..مشغول منه فيه..مُبهج.. من غير أي ألوان عشان التعليمات». علينا الآن أن نصلي ألا يلقى الفستان الأبيض مصير النجوم الملونة التي ترفض إدارة السجن منذ شهور السماح بإدخالها إلى محبس صديقتي الشغوفة بالنجوم..وهي ترتدي الأبيض.