يجب أن نتحلي بقدر من الشجاعة حتي نواجه الحقيقة, ونصارح أنفسنا بها مهما تكن مرارتها, والحقيقة المرة مرارة الصاب والعلقم أن كل ما صنعناه حتي الآن باسم الديمقراطية لم يحقق لنا الديمقراطية, ولم يقربنا منها خطوة, بل زادنا بعدا عنها. وسوف يواصل إبعادنا عنها, ويقيم بيننا وبينها الحدود والسدود. لقد ثرنا علي النظام المستبد الفاسد الذي انفرد بالسلطة كلها ما ظهر منها وما بطن, وسرق الثروة كلها, وجعل الرشوة أجرا مستحقا والإتاوة ضريبة معلنة, وأذل الشعب العظيم وأنساه قيمه وتقاليده, وضارب باسم مصر وهبط به إلي أسفل سافلين. وقد صبرنا طويلا علي هذا النظام العفن حتي فاض الكيل, وانفجر الإناء, وسقط رأس النظام, لكن النظام لم يسقط! لم يكن حسني مبارك هو الذي صنع هذا النظام, وإنما كان هو صنيعة النظام الذي صنعه ضباط يوليو.. كان صنيعته قبل أن ينضم لصناعه, ثم أصبح في النهاية ضحيته! ضابط مصري أدي واجبه في الحرب بكفاءة, ثم وجد نفسه فجأة نائبا للرئيس بكلمة من الرئيس, ثم وجد نفسه فجأة رئيسا بطلقة من رشاش الإسلامبولي هبطت بواحد إلي القبر, ورفعت الآخر إلي قمة السلطة التي لم يجد فيها غيره, كل من تحته خدم أوجرذان كما كان يقول الطاغية الليبي المجنون, وليس فوقه سواه. إذا نظر نظرة تحولت إلي مرسوم جمهوري, وإن أشار بطرف إصبع وقف الجميع, أو أغلقوا أفواههم, أو ضحكوا, أو اجهشوا بالبكاء. حاكم بأمره, يعلن الأحكام العرفية, ويعدل الدستور ويرقعه ويقلبه ظهرا لبطن وبطنا لظهر, ويزيف الانتخابات, ويعين النواب, والوزراء, والقضاة, وقادة الجيش, والشرطة, وشيوخ الأزهر, ورؤساء تحرير الصحف, والكتاب, والشعراء, والنقاد والمطربين, والممثلين, والمذيعين, ومقدمي البرامج. كيف لا يفسد هذا الرجل الذي صنعه نظام يحول رؤساءه إلي آلهة؟! ولقد بقي حسني مبارك في السلطة ثلاثين عاما تراكم فيها الفساد طبقات بعضها فوق بعض حتي إذا كدنا نختنق تحته ثرنا واستطعنا أن نسقط حسني مبارك, لكننا لم نستطع أن نسقط النظام الذي سارع فتخلي عن رئيسه لكي ينقذ نفسه ويرمم ما انهار من بنيانه, ويستعيد ما فقد من سلطانه, ويصنع بديلا بطريقة يبدو بها وكأنه قد تغير. والحقيقة أن شيئا لم يتغير إلا الوجوه التي ينفتح عنها الستار في هذه الأيام, أما الذين يحركونها من ورائه فهم هم, لم يتغيروا, والدليل علي ذلك ما حدث منذ تنحي مبارك حتي الآن. لقد طالب الثوار بإسقاط النظام المستبد الفاسد وبناء دولة مدنية ديمقراطية تعود فيها السلطة المغتصبة للأمة مصدر كل السلطات, ويتمتع فيها المصريون جميعا علي اختلاف أصولهم وطبقاتهم وعقائدهم بحقهم الكامل في الحرية والعدالة والكرامة. فما الذي أنجزناه حتي الآن في الطريق إلي هذه الدولة المدنية الديمقراطية؟ كان المنطق يحتم وضع دستور جديد للبلاد نصحح فيه الأوضاع التي أفسدها حكم الطغاة طوال العقود الستة الماضية, ونتجنب فيه كل ما دخل الدساتير السابقة من تناقضات وتلفيقات خلطت الدين بالسياسة فجعلت الدين مساومات وتوازنات, وجعلت السياسة أحكاما مطلقة وفتاوي لا تناقش, وزوجت الجمهورية بالملكية والديمقراطية بالطغيان. لكننا تجاهلنا هذا المطلب المنطقي البديهي عمدا, وبدلا من وضع دستور جديد أجرينا للدستور الفاسد تعديلات لم تستأصل ما فيه من فساد, وإنما مدت في عمره زورا وبهتانا بالقدر الذي يوقف المطالبة ولو مؤقتا بوضع دستور جديد, ويسحب الأرض من تحت أقدام ثوار يناير الذين أصبح عليهم أن ينكسوا أعلامهم, ويطووا خيامهم, ويعودوا إلي منازلهم, ويتركوا الساحة خالية لجماعات الإسلام السياسي التي كانت واقفة بالمرصاد تتحين الفرصة وتتلمظ للطبخة, مزودة بخبراتها الطويلة في النشاط السري والعلني, وبما تعرضت له في بعض العهود من محن تثير مخاوفها وتفتح شهيتها, وبما تلقته في عهود أخري من عطايا واستثمرته من أموال, واستغلته من دور العبادة ومؤسسات التعليم وأجهزة الإعلام, وحذقته من فنون التظاهر والتستر والتحايل والتعامل مع السوق عرضا وطلبا, وتشددا وتنازلا, دون أن تجد في هذه السوق منافسة جادة تفرض عليها التعقل والاعتدال. الشباب الذين بدأوا الثورة ليسوا منظمين في أي حزب سياسي, ولا تجمع بينهم نظرية أو أفكار محددة, ولم يأتوا ببرنامج متفق عليه, وإنما كانوا مجرد رد فعل غاضب ساخط علي ممارسات النظام القذرة وعربداته الحيوانية التي وقف هؤلاء الفتيان والفتيات الأطهار يحتجون عليها ويتبرأون منها, دون أن يخطر لهم أنهم أشعلوا نار الثورة التي ارتجف أمامها النظام وانهار أمنه, واستجابت لها مصر كلها التي لا نراها إلا في أيام القيامة وفي مطالع العصور وشاركت فيها ووقفت تطالب بإسقاط النظام الذي دحرج رأسه للثوار فظنوا انه سقط وانصرفوا إلا قليلا منهم ليتركوا الساحة للبديل المتربص! وإذا كان الثوار قد عجزوا حتي الآن عن أن يكونوا قوة سياسية منظمة تقف في وجه جماعات الإسلام السياسي فقد عجزت الأحزاب القائمة هي الأخري عن الوقوف في وجهها. لأن الشروط التي كانت تعمل في ظلها قبل الثورة لم تكن تسمح لها إلا بأن تكون زخارف سطحية, أو ديكورات يتجمل بها الطغيان ويتظاهر بأنه ديمقراطي لا يفرض نفسه وإنما يدخل مع هذه الأحزاب في انتخابات لا يعيبه ان يحصد فيها ثمانين في المائة من مقاعد البرلمان الذي هو سيد قراره علي حد عبارة رئيسه الكذاب, ولا تحصل هذه الأحزاب الا علي الفتات الذي يتنازل لها عنه النظام لتبرر وجودها. وإذا كان زعماء هذه الأحزاب ونوابها قد ظلوا منذ السبعينيات الأخيرة في القرن الماضي إلي قيام الثورة قبل عام أيتاما في مأدبة اللئام لا أمل لهم في الوصول الي السلطة, ولا قدرة لهم علي تطبيق برامجهم أو تحقيق وعودهم فمن الطبيعي ان ينصرف عنهم عامة الناس ويذهبوا للذين يخيرونهم بين الذهاب معهم إلي الجنة أو الذهاب الي النار مع العلمانيين والليبراليين, ومن الطبيعي أن يختارو الجنة, خاصة أنهم سيحصلون فوق ذلك علي حاجتهم من الملابس والزيت واللحم بأرخص الأسعار! وما الذي كنا ننتظره من جمهور بينه وبين آخر انتخابات حقيقية شهدتها مصر أكثر من ستين عاما ظل خلالها المصريون محرومين من المشاركة في حكم بلادهم, ممنوعين من ممارسة أي نشاط سياسي وإلا فالمعتقل أمامهم والحزب الحاكم وراءهم. والحزب الحاكم ليس حزبا وإنما هو متعهدو أنفار, وأجهزة أمن وحملة دالات مزورة, وترزية قوانين, ووزراء مخلدون, ولصوص محترفون, أما الأحزاب الأخري فكما علمت! والانتخابات البرلمانية تزوير في تزوير, والنقابات تعينها أجهزة المباحث, والصحف نشرات دعاية للنظام, ورئيس النظام, وزوجة رئيس النظام وأنجاله وأصحابه. والثقافة السائدة لا علاقة لها بالوطن, أو بالعقل, أو بالعصر, أو بالانسان, وإنما هي ثقافة الحلال والحرام, والجنة والنار, والحجاب والنقاب, واللحية والزبيبة, والسروال والجلباب. أو هي ثقافة المضاربة, وسرقة المال العام, والاتجار بالمخدرات! ما الذي كنا ننتظره من هذا الجمهور إلا هذا المجلس الذي قرر أن ينفرد بكل شيء, ويستبد بكل شيء, بالبرلمان, والحكومة, ورئاسة الجمهورية, ولجنة الدستور, والدستور؟ فهل نطعن في نتيجة الانتخابات؟ نعم! لأن الصوت وإن لم يتعرض للتزوير فقد تعرض صاحبه للخداع والتضليل والتغرير. هل هذه هي الديمقراطية؟ لا.. هل تغير النظام؟ لا... لم يتغير النظام! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي