تفشل محاولات الاصلاح فى أى مجتمع حين لا يدرك القائمون عليها حجم وعمق الفساد الذى يريدون اصلاحه، هذا قانون تاريخى لايدركه الا من يستطيع تأمل تجارب البشر فى مختلف مجتمعاتهم. الاصلاح هو المعادل الموضوعى للفساد، هو الوجه الآخر له، هو قرينه الذى ينبغى أن يكون مكافئاً له كماً وكيفاً وزماناً، فبقدر حجم الفساد وعمقه ينبغى أن تكون عملية الاصلاح. اصلاح الفساد ان لم يكن مستوعبا لفلسفة الفساد ذاته سيقود الى فساد أعظم، وحال كثير من الدول العربية التى سيطرت عليها نخبٌ فاسدة لزمن طويل مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن مثال لا يحتاج الى مزيد ايضاح، حيث سعت جماعات وحركات تسمى نفسها بالثورية أو الاصلاحية، لم تدرك طبيعة الفساد فى مجتمعاتها للتخلص من هذا الفساد؛ فكانت النتيجة فسادا أعظم وأكثر خطورة، حيث قادت الرغبة فى التخلص من فساد الديكتاتور الى انفجار المجتمع انفجاراً عنقوديا فى متوالية لا نهائية: قبلية وطائفية وجهوية، ناهيك عن كل المتغيرات والانشطارات الدولية، فكانت النتيجة ضياع المجتمع والإنسان فى بحور جارية من الدماء. ولأن ما يشغلنا هو حالة مصر وكيفية الخروج من حالة الفساد الشامل الذى تعيشه منذ عقود؛ فسوف نخصص هذه المساحة لهذا الموضوع الى أن تنضب الأفكار أو ينتهى الكلام. والمقصود بالفساد هنا ليس المعنى القانوني، وانما المعنى الحضارى العام الذى هو عكس الصلاح والاصلاح، فحالات الفشل المتوالى فساد، وانعدام الكفاءة فساد، والتخلف فساد، وتدنى مستويات الحياة، وضعف الخدمات فساد، والظلم رأس الفساد، وانتهاك حقوق الإنسان عين الفساد…..الخ. وحالة مصر منذ ما يزيد على أربعة عقود هى تجليات متعددة للفساد بمعناه الحضارى الشامل، وإن كان الأكثر ظهورا فيها هو الفساد الادارى والمالي، الا أن الفساد العام الشامل هو الأصل والمنبع حتى بالنسبة للفساد القانوني، فبدون ترسخ مفاهيم الفساد فى الثقافة العامة لم يكن ممكنا أن ينتشر الفساد المالى والاداري، وبدون الفساد المالى والادارى لم يتمدد الفساد الحضارى الى هذا المستوى، وبهذا العمق. الفساد فى مصر عميق بعمق ثقافتها، متجذر فى النفوس بصورة يصعب معها وصفه بالفساد، تغيرت خصائصه الجينية حتى صار هو والصلاح توأمين سياميين متطابقين، الفساد فينا جميعا أصبح ثقافة، نمارسه كنوع من تحقيق الذات، من التميز، من إثبات أننا مهمون، وأننا أكثر براعة من الآخرين وأشطر منهم، وأكثر أهمية منهم، ومن طبقة أعلى منهم، الفساد فينا جميعا وبدون استثناء من التقى النقى الى المجرم الفاسد، كلنا فاسدون…وبعضنا مفسدون. تأمل سلوكياتنا جميعا… من منا لا يشعر بالنصر والفوز وتحقق الذات حينما يحصل على الخدمة متجاوزاً طابور المنتظرين، أو مقتحما الطابور بحيلة من منتصفه أو آخره؟ من منا لا يحب أن يكون له معرفة أو صديق أو قريب فى كل مصلحة يريد أن يتعامل معها حتى يقضى حاجته من خارج النظام، اذا كان هناك نظام؟ من منا لا يحب أن يتهرب من الحق العام سواء أكان ضرائب أو جمارك أو شيئا آخر؟ من منا لا يحب أن يحصل على أكثر من حقه فى أى سلعة أو خدمة مدعومة من المال العام؟ من منا لا يتمنى أن يحصل على أرض أوشقة من المال العام وبسعر رمزي؟… بهذا المعنى نحن جميعا فاسدون. كم هو ممتع حقا أن تخالف القانون فى مصر، أن تسير فى الاتجاه المعاكس فى الطريق، أن تسلك الطريق الأقصر حتى وإن كان ممنوعاً السير فيه، أن تمارس الرشوة وتسميها اكرامية، ومن علامات ترسخ قيمة الرشوة فى ثقافتنا وتحولها الى قانون غير مكتوب أن صار الموظف الذى يرفض الرشوة مخلوقا غريبا الى الحد أن أصبح خبراً تتسابق الصحف فى نشره… ما أعظم فسادنا الذى جعل السلوك الطبيعى خبراً. هل صادف أحد منا يوما موظفا عاما فى دولاب الدولة لا ينتظر من المتعاملين معه أن يقدموا لعظمته كل عبارات الشكر والمديح لأنه أدى وظيفته، الوظيفة فى مصرنا ملك للموظف الذى يشغلها، وكل ما يقوم به الموظف العام هو خدمة شخصية تنازل سيادته وقدمها لذلك المواطن الذى يتسول منه هذه الخدمة؛ ليس لأنها حق له، وانما لأنها «منة وفضل» من سعادة الباشا أو البيه الذى يحصل على رزقه من أداء هذه الخدمة… إن لم يكن هذا فساداً… فما هو الفساد؟ قد يكون من المستحيل تعداد تجليات الفساد فى ثقافتنا ورصد نماذجه وحالاته، لذلك لن نغرق فى رصده لأنه مثل النهار لا يحتاج الى دليل، يكفى أن ينظر كل منا فى نفسه، ويراجع تاريخ تعاملاته مع المجتمع والناس. وهذا الفساد العام الشامل العميق يستحيل القضاء عليه مرة واحدة، أو مواجهته مواجهة شاملة، والا كان من يريد أن يفعل ذلك مصلحاً أحمقاً غايته صحيحة، ووسيلته خاطئة الى الحد الذى يقضى على الغاية ذاتها. مواجهة هذا النوع من الفساد تحتاج الى استراتيجيات معقدة جداً أهم معالمها: البدء باصلاح أضعف مناطق الفساد، أى مواجهة الفساد الضعيف غير المتجذر الجزئي. البدء بالفساد البعيد عن المراكز القوية فى البيروقراطية. البدء بالفساد الهامشى الذى لا يمس جوهر البنية البيروقرطية الفاسدة. تقديم معالجات غير تقليدية لا تقوم على المواجهة المباشرة مع هياكل الفساد. اعتماد نماذج الاحلال والاستبدال سواء المؤسسى أو البشري، بأن يتم تأسيس مؤسسات موازية أو احلال كوادر بشرية بديلة. التخلص من الثقافة الفاسدة من خلال التخلص ممن يحملها مثل تبكير سن التقاعد للبيروقراطية. اعتماد منهج جديد فى الخدمة المدنية يقوم على التدريب والانجاز ويلغى فكرة الوظيفة الدائمة. الفصل بين ملكية المؤسسات أو تبعيتها وبين ادارتها. مراجعة اللوائح والقوانين المنظمة للعمل الادارى بصورة دورية. تفعيل قوانين الكسب غير المشروع لمحاسبة الفساد فى نتائجه إن كان يصعب ضبطه فى منبعه. هذه نماذج وهناك غيرها أكثر، سوف نحاول تناولها فى الحلقات المقبلة. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف