كان شيخنا وأحد عباقرة مصر, الأستاذ/ خالد محمد خالد, يكتفي في توقيعه علي كل ثمرات قلمه, بالوصف الشهير من العلماء, إذ كان يري وهو من هو أن أكرم نسب وأشرف لقب, يحمله ويعرف به, كونه من علماء الأزهر الشريف. وكثيرهم من علماء العالم الاسلامي في مغربه ومشرقه الذين يعتزون بلقب الأزهري كما يعتز آخرون بالانتساب إلي السوربون أو كامبردج أو ماكجيل أو هارفرد. ولايزال الفضاء المصري والعربي بل الاسلامي يزدهي بأسماء شلتوت, وعبد الله دراز, وعبد الرحمن تاج, وعبد الحليم محمود, ومن قبلهم من أمثال محمد عبده, ومحمد الخضري, ومحمود خطاب السبكي, وسليم البشري, ومصطفي المراغي, ومصطفي عبد الرازق, وهم في مقدمة صناع العقل والوجدان المصريين, وأئمة الاتجاه الوسطي لصحيح الدين, علي امتداد عالمنا الاسلامي كله. نعم, إن ما مر بمصر من ظروف معروفة, في نصف القرن الأخير أو يزيد, قد ترك أثره في سائر مؤسساتها ومنها الأزهر بالضعف والحصار, بل التحجيم أحيانا, الأمر الذي شكا منه حملة الأقلام عامة, وعلي صفحات الأهرام خاصة, كما شكا منه بعض شيوخ الأزهر ومسئوليه, بلا سميع أو بصير, حتي كدنا لا نجد إلي جانب الشيخين محمد الغزالي والشعراوي في أواخر القرن الماضي أحدا في قامتهما, وكانوا يوما يعدون بالعشرات. ولعل هذا هو السبب فيما يواجه به الأزهري الآن, من التساؤل الضمني المتفائل علي كل حال : أهلا وسهلا, كأنما يريد المصريون بالذكاء وخفة الدم المعروفة أن يقولوا: والله زمان يا سلاحي.. وكاتب هذه السطور يضطر إلي أن يقول عادة في جواب هذا التساؤل: إن الأزهر ليس لاعبا جديدا علي الساحة المصرية, الوطنية والفكرية, وهل نسينا منذ مطلع نهضتنا المعاصرة المؤسسين الجبرتي والعطار, وتلاميذهما من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي وجيل التنوير الحقيقي؟ وهل نسينا أن مفجر ثورة عرابي وقائدها شاب أزهري, هو عرابي نفسه بعد أن دخل الجيش المصري, وأن مفجر ثورة9191 وقائدها هو شيخ أزهري تدرب في القضاء المصري, وهل رائد الفكر المصري بأطيافه جميعا, الشيخ الإمام محمد عبده, إلا أزهري عاني السجن والنفي والحصار, ولكن فكره تجاوز الحواجز إلي السلف الكرام الذين يزينون بأسمائهم صدر هذا المقال؟! وسواء كانت عودة أو استمرارا, ما نشهده من حراك ودور بارز لهذا المعهد العريق الذي احتضنته مصر, والقاهرة وهي العاصمة الثقافية للعالم العربي والاسلامي قرونا عدة, فرد لها وللعالم الاسلامي الجميل, بل وللانسانية التي يتطلع الكثير من شعوبها الآن إلي الأزهر بفكره الوسطي الأصيل ليقدم إليها الدعاة والائمة, وأيا كان الأمر, عودة أو استمرارا, فإن هذه الصحوة الأزهرية التي يقودها شيوخه الآن, تتزامن بحمد الله مع عودة الروح المصرية, وقيام الثورة الوطنية, التي ردت إلي مصر وهي أم الدنيا شبابها وعافيتها, بما قدمته من دماء شبابها وأبنائها, وفكر رجالها, وإجماع أهلها, ويكفي الأزهر في موكب الثورة إلي جانب العمائم البيضاء الناصعة, التي لمعت في ميدان التحرير, وكان الشباب يقابلها بكلمتي أهلا وسهلا, يكفيه أن يكون عقل الثورة المصرية, بوثائقه الأربع, وبخاصة وثيقته الأولي عن صورة الدولة الحديثة التي ترتضيها الشريعة الاسلامية, وترتضيها الشعوب بكامل حريتها وصادق بيعتها, وهي التي قال عنها أحد علماء المغرب: لقد حسمتم الجدل حول مفهوم الدولة الذي ترضاه أمتنا وترتضيه شريعتنا ويقبله عصرنا, وسيكون له بإذن الله دور البوصلة في نهضة العالم العربي والاسلامي المعاصر. وأود أن أختم كلمتي هذه فيصفحة الفكر الديني برأي أعتقد أن أكثر القراء سيوافقونني عليه, وهو أن العودة الحقيقية للأزهر هي عودة الأزهري المتمكن من لغته ودينه وتراث أمته, القادر علي عرضه, بمنظور سديد جذاب, علي مثقفي العصر وعامة الشعب, ولن يكون ذلك ممكنا إلا بإصلاح المناهج التعليمية الأزهرية, وبخاصة ما دون الجامعية, وهو ما بدأه الأزهر فعلا بحمد الله, فقد قرر الدكتور/ أحمد الطيب, منذ توليه مشيخة الأزهر وقبل الثورة بعام إنشاء شعبه في الثانوية الأزهرية, بجانب شعبتي الآداب والعلوم, للدراسات الشرعية واللغوية, تؤهل خريجيها بوجه خاص للالتحاق بالكليات الأصلية بجامعة الأزهر, وهي الكليات المتخصصة في الدراسات الشرعية والعربية, وأن يعود بمناهج هذه الشعبة تدريجيا إلي ما كانت عليه المناهج الأزهرية قبل موجات التطوير أو التسطيح المتعاقبة, التي فرغت المناهج من مضمونها العربي والفقهي حتي أصبح طالب الأزهر يأتي إلي الدراسة الجامعية وهو غير قادر علي استيعاب ما كان يدرسه الأزهريون في الخمسينيات وما قبلها من القرن الماضي في المرحلة الاعدادية الأزهرية, التي كانت تسمي عندئذ الابتدائية. هذه حقيقة قد لا يعرفها بعض القراء الكرام, الذين لا صلة لهم بالشئون الأزهرية, وإن كانوا يلمسون أثرها حين يستمعون إلي خطيب الجمعة كل أسبوع, فيترحم الكثير منهم علي ما كانت عليه الحال في الأمس القريب أو البعيد. هذه هي العودة الحقيقية للأزهر القديم الجديد, وما كلمتي هذه إلا بشارة به وتنويه بقدومه, حين تشرق شمسه في صبح قريب من الدراسة بالقاهرة, لتضيء العالم الاسلامي بإذن الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. صدق الله العظيم. وإذا صدق العزم وضح السبيل