إن إعلان عقد المجتمع المدنى العربى (2015-2025)، يستهدف فى مضمونه وغاياته إطلاق مبادرة إقليمية عربية تربط بين الحكومات والمنظمات الأهلية العربية (أو المجتمع المدني)، والمنظمات الإقليمية الحكومية وغير الحكومية، والمنظمات الدولية، وذلك بهدف تعزيز التنمية المستدامة، التى تستند إلى شراكة قوية بين الأطراف الفاعلة ومشاركة مجتمعية واسعة، تتوجه نحو الفئات المهمشة بهدف تمكينها. إن التمكين يعنى تقوية قدرات هذه الفئات، للاعتماد على الذات، وتوفير فرص الخيارات أمامها، من خلال التعليم والتدريب والتأهيل والصحة والتوعية الحقوقية. كما إن الشراكة التى نستهدفها من خلال إعلان عقد المجتمع المدني، تستند إلى توزيع الأدوار والمسئوليات بين الشركاء، بهدف تحقيق أهداف تنموية محددة، فى سياق من المساواة والاحترام والنزاهة والمحاسبية، وفى سياق من الحوار، وتعظيم المزايا النسبية لكل طرف. وهنا نشير إلى أن المنظمات الأهلية وهو التعبير الأقرب للواقع العربى والتشريعات والانتشار- لها مزايا «نسبية» كبيرة.. فقد لا يتوافر لها التمويل الكافى لتحقيق طموحاتها، ولكن تتوافر لها إرادة العمل التطوعى والقدرة على النفاذ إلى القواعد الشعبية، فى الحضر والريف والبوادي.. كما تتوافر لها قدرات استجابية عالية للاحتياجات المتجددة والمشكلات الطارئة، دون تقيد بنظم إدارية بيروقراطية.. تتوافر للمنظمات الأهلية أيضا قدرات «استشعار المخاطر»، والاستجابة لها، ولنتذكر أن هذه المنظمات هى التى نبهت الحكومات- ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين- لظاهرة أطفال الشوارع، وعمل الأطفال، وقضايا النساء المعيلات لأسر... بالإضافة إلى الدور المهم الذى لعبه قطاع المنظمات الحقوقية، سواء الحقوق السياسية والمدنية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الحق فى الصحة، الحق فى السكن، الحق فى نوعية تعليم ملائمة، الحق فى ثقافة وفنون مستنيرة..). الخلاصة إذن أننا أمام أدوار مهمة للقطاع الثالث (أو الأهلي) إلى جانب الحكومة والقطاع الخاص، وهناك فرص أكبر وأكثر اتساعا لتفعيل دور المنظمات الأهلية فى إطار التنمية المستدامة والتمكين للفئات الضعيفة- إلا أن تطوير دورها يستلزم أمرين أساسيين: أولهما: جهد دءوب لبناء قدرات المنظمات الأهلية، والتى تفتقد إلى ممارسة العمل الجماعي، والإدارة الرشيدة للحكم، ويدعو بعضها إلى الديمقراطية وهو يفتقدها، وإقرار وممارسة المساءلة والمحاسبة، واعتماد منهج لتقييم دورها ثم تطويره. ثانيهما: بناء شراكات قوية بين المنظمات الأهلية وبعضها البعض، وليس مجرد ائتلافات وتحالفات لها شعارات رنانة، وإنما نبتغى ائتلافات وأطرا تتحرك خلالها المنظمات، لتفعيل دورها التنموي.. وأفضل صيغة هى «مجموعات تنموية» تضم طواعية منظمات لها هدف مشترك وتقوم جميعها بتنفيذ مشروعات تنموية (لها تمويل واضح ومعلن المصدر، وتتوزع الأدوار والمسئوليات بينها فى سياق تشاركى يعتمد على المساءلة والمحاسبة..).نحتاج أيضا إلى شراكات قوية بين الحكومات والمنظمات الأهلية والقطاع الخاص، بحيث تبنى هذه الشراكات على معايير ومبادئ واضحة، وتوزيع للمسئوليات والأدوار فى إطار من الاحترام والمساواة، يتفهم قدرات هذه المنظمات ويعظم من مزاياها النسبية.. هذه «الشراكات» بمثابة «عملية تعلم» لكل الأطراف، تستند إلى المعرفة والتخطيط الاستراتيجى و»التقييم التشاركي». قد يثير البعض إشكالية الخلط بين الدين والسياسة، على مستوى المنظمات الأهلية، وتحديدا فى ساحة العمل الخيري، لكن علينا أن نتفهم أن مثل هذه المنظمات قد تصاعد دورها نتيجة ثغرات فى الأداء الحكومى للسياسات الاجتماعية، ومن ثم تفاقمت ظاهرة استقطاب الموالين من خلال سد هذه الثغرات، وتقديم خدمات صحية وتعليمية ومساعدات اجتماعية... إن تقوية الشراكة بين الأطراف الفاعلة، والوصول إلى القواعد الشعبية فى كل مكان، هو الذى سيواجه بقوة ظاهرة الخلط بين السياسة والدين فى العمل الخيري.. إن الإعلان عن عقد المجتمع المدنى العربى (2015- 2025) إذا تم التخطيط له بجدية ومثابرة، سوف يسهم بلا شك فى تمكين الفئات المهمشة، ويتعامل على أرض الواقع مع إشكالية تسييس العمل الأهلي، ومع إشكاليات بناء القدرات التى تؤثر سلبا على فاعلية المنظمات الأهلية. إن «إعلان عقد المجتمع المدنى العربي» الذى تتبناه جامعة الدول العربية، بمساندة برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وهيئة المرأة بالأممالمتحدة، قد يكون هو الفرصة الأخيرة المتاحة للمنظمات الأهلية العربية، لدمجها فى عملية التنمية بدرجة اكبر من الفاعلية، وبمساندة الحكومات العربية، التى يتوجب عليها الثقة فى هذه المنظمات وقدراتها للوصول للسكان. ولابد لإعلان «عقد المجتمع المدنى العربى 2015- 2025» أن يستند إلى متطلبات أساسية لإنجاحه، وأهمها يستند إلى العلم والمعرفة وتفهم «خصوصية» المنظمات الأهلية، وما نطلق عليه الخريطة المعرفية للمنظمات الأهلية العربية، والتى تبلورت على مدى نحو عشرين عاما من التراكم المعرفى (أصدرت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية بهذا الخصوص 45 دراسة وتقريرا شارك فيها نخبة من الأكاديميين العرب تضم نحو 190 باحثا وخبيرا، وذلك على مدار 20 عاما).تقول لنا هذه الخريطة المعرفية إن المنطقة العربية ككل بحاجة إلى تفعيل المنظمات الخيرية التقليدية - والتى تستند إلى علاقة مباشرة بين مانح ومتلق، وتمثل فى المتوسط العام نحو 40-50% من إجمالى المنظمات الأهلية العربية- لتتحول إلى منظمات تنموية تستند إلى تمكين الفئات المهمشة بدلا من تعزيز اعتمادها على تبرعات أهل الخير. تكشف لنا أيضا الخريطة المعرفية للمنظمات الأهلية العربية، أن الساحة تشهد دورا مهما لهذه المنظمات - لكنه مازال محدودا- فى مجال صحة السكان وتقديم الخدمات الصحية الأولية، بالرغم من زحف القطاع الخاص وبقوة للاستثمار والربح فى مجال الصحة، استنادا إلى تراجع دور الحكومات فى تقديم خدمات صحية مجانية للسكان. إن الخريطة المعرفية للمنظمات الأهلية التى ينبغى أن يستند إليها الإعلان عن عقد عربى للمجتمع المدنى (2015- 2025)، تكشف النقاب عن أن المنظمات المعنية بمكافحة الأمية وتعزيز نوعية التعليم، مصابة بحالة من «الوهن» وضمور التمويل، وتحتاج إلى شراكات قوية مع الحكومة والقطاع الخاص. تقول الخريطة المعرفية للمنظمات الأهلية، إن حوالى 20% من المنظمات تتعامل مع تحديات الفقر، وهو أحد أولويات الأهداف الإنمائية العربية، وذلك من خلال التدريب والتأهيل لتوفير فرص عمل، وتقديم القروض الصغيرة ومتناهية الصغر، وتتوجه بشكل رئيسى للشباب والنساء المعيلات لأسر.. هذه المنظمات وغيرها يمكن تقوية قدراتها للتوسع من جانب، والابتكار والإبداع من جانب آخر. وأخيرا فإن الخريطة تقول لنا إننا أمام 3% إلى 5% فقط من المنظمات الأهلية العربية تنشط فى مجال الثقافة والفنون، وبعضها نجح فى اختراق القواعد الشعبية والنزول لها (حالة مصر بعد الثورة، ونموذج الإمارات العربية المتحدة، والمملكة المغربية...) وهو ما يعنى بالنسبة لإعلان عقد المجتمع المدنى العربى (2015-2025) ضرورة التنبه للثقافة والفنون ودورها فى عملية التنمية المستدامة. هناك فرص متاحة لنجاح عقد المجتمع المدنى العربى تدفع أصحاب المصالح من حكومات ومنظمات أهلية وقطاع خاص، إلى آفاق جديدة من الشراكات والتنمية المستدامة.. فهل من مجيب؟ لمزيد من مقالات د. أماني قنديل