وقف المريض أمام الطبيب، يحكى معاناته مع آلامه، وقبل أن يتم شرح حالته، التى لم يستمع اليها الطبيب بكل تأكيد، ناول المريض نموذجا به عشرات التحاليل المطلوبة، الدم والبول ووظائف كبد وكلى ومزرعة وسوائل أخرى وعينات للأنسجة، وكشفا ثانيا للاشعات العادية وبالصبغة ومقطعية ودوبلر، ورنين مفتوح!! ثم أشاح بوجهه عنه، ودخل إلى حاجز به مريض، وجلس الطبيب على كرسيه، والمريض يشرح على الواقف (تيك اواي) ويتظاهر الطبيب بسماعه وهو يتكلم فى الهاتف مع مرضى واصدقاء، ويبادلهم التحيات والمناقشات ثم أعطى المريض كشفين أحدهما للتحاليل المعملية والثانى للاشعات بجميع أطيافها!! وخرج عدد من المرضى من غرفة الفحص فى «نفرة واحدة» لتدخل «نفرة» جديدة ملأت حواجز غرفة الطبيب!! وبدأت السكرتيرة، وعمال النظافة بالعيادة تفسير اماكن طلبات الأشعة والتحاليل خارج وداخل العيادة، ونبهوا المرضى إلى أنهم بعد أن يتموا التحاليل والأشعة يأتون إلى الطبيب ليراجعها ويشخص أمراضهم ويصف لهم العلاج المفيد، وتحول الطبيب إلى مراجعة تحاليل واشعات المرضى المنتهين من اجرائها والذين راحوا ينظرون إلى محياه مع كل زمة وجه، أو نبسة شفة أو حدجة عين أو تكشيرة ملامح، وجعل يزفر معيبا الاشعات وتضارب تقاريرها، ومشكلة اختلاف نتائج التحاليل عن المتوقع وطلب إعادة التحاليل والاشعات فى مراكز أخرى بالطريقة اليدوية لان الطريقة الكمبيوترية أدخلت التشخيص فى حيص بيص!! احتار الطبيب بعد اطلاعه على الاشعات والتحاليل المعادة ليقول: عملنا الاشعات والتحاليل فى مكانين ولكل مكان رأى مغاير.. وأريد منكم رأيا ثالثا فى معمل ثالث وأشعة ثالثة للترجيح!! ومضى المرضى على مضض ليواصلوا الآلام وإعادة الفحوص للمرة الثالثة مع العبء النفسى والمادى والجسمانى الثقيل!! انهم يدورون فى مدار دائرى لاينتهي، فهل يهرعون إلى طبيب آخر.. ومن يضمن لهم أن الطبيب الجديد لن يكون مثل سابقه؟!! وتذكرت اطباءنا القدامى الذين كانوا يجيدون فن تشخيص الامراض بالاستماع الجيد لشكوى المريض ومتابعة سير المرض منذ بدايته وخطوات تقدمه، ثم يستنبط من التركيز فى كل ذلك مسار التفكير فى التشخيص وبعدها يفحص المريض «بأنامله» وكفوف يديه ونادرا ما كان يحتاج إلى تحاليل كثيرة واشعات ثم يصف دواء أو دواءين على الأكثر بأرخص الاسعار ويشفى المريض!! واذا كان ما سبق يحدث فى العيادات الخاصة على نفقة المريض، فإن ما يحدث فى العلاج الحكومى أو النقابى من تأمين صحى ونفقة الدولة والمؤسسات العلاجية هو نفسه، بالإضافة إلى طوابير لاتنتهي، وتعقيدات إدارية لاتحل، ونفقات مادية لاشعات أو تحاليل أو أدوية غير متوافرة بعد مجهودات مراجعة التحاليل والاشعة للوصول إلى تشخيص!! الأمل أن نعود إلى التشخيص بفن الاستماع الجيد للمريض وشكواه وتاريخ بداية مرضه ومسار أوجاعه، ثم الفحص بالأنامل والكفوف مع نقاء العقول وسلامتها، ومهارة التوقع والحدس للجداول التشخيصية المحفوظة فى ذهن الطبيب باستمرار!! كل هذا سيؤدى إلى تشخيص سهل لأكثر من ثمانين بالمائة من المرضى والباقى نتركه للدوران فى فلك التحاليل والاشعات التى قد لاتنتهي!! د. محمود أبوالنصر جاد الله مستشفى دسوق