على الرغم من التوصل لاتفاق فى مينسك يوقف إطلاق النار فى شرق أوكرانيا اعتبارا من اليوم - الأحد - فإن العديد من الشواهد تشير إلى أن الطريق ما زال طويلا أمام الوصول إلى نقطة النهاية للصراع المشتعل منذ 10 شهور، خاصة فى ظل ما وضح من انقسام فى مواقف أطراف الأزمة بلا استثناء حول فاعلية الخيار الدبلوماسي. فعلى الصعيد الدولي، وعقب إعلان نجاح المستشارة الألمانية أنجيلينا ميركل والرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند فى انتزاع موافقة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونظيره الأوكرانى - بعد 16ساعة من المحادثات فى مينسك - على خريطة طريق للسلام، انتقدت داليا جريباوسكايتى رئيسة ليتوانيا اتفاق وقف إطلاق النار، واصفة إياه ب"الحل الجزئي"، لأنه لا يشمل بنودا واضحة بشأن السيطرة على الحدود. كما حذر دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبى من خطورة فشل هذا الاتفاق، قائلا : "ينبغى علينا الحذر، فالاختبار الحقيقى هو احترام وقف إطلاق النار على الأرض". ومن جهتها، قالت فيديريكا موجيرينى وزيرة الخارجية الأوروبية إن الاتفاق يعد بلا شك خطوة فى الاتجاه الصحيح، رغم أنه لن يؤدى إلى تسوية كل شيء. وكان الرئيس الفرنسى محقا عندما أطلق على اتفاق مينسك "اتفاق الفرصة الأخيرة"، فهو بالفعل الفرصة الأخيرة لجميع أطراف الأزمة للوصول إلى حل يرضى الجميع، قبل أن تتطور الأمور إلى ما يحمد عقباه. فاتفاق مينسك هو الفرصة الأخيرة أمام أوكرانيا لتفادى هزيمة عسكرية وانهيار اقتصادي. وفرصة أخيرة بالنسبة لأوروبا لتعويض خسائرها الاقتصادية جراء حرب العقوبات والتغلب على أزمتها المالية التى تهدد وحدتها. وفرصة أخيرة أيضا بالنسبة للولايات المتحدة لوقف العمل على إطالة أمد الأزمة واستنزاف الجانبين : الأوروبى والروسي، ومن ثم الاعتراف بنهاية عصر القطب الواحد والتخلى عن سياسة الاحتواء المتبعة ضد موسكو منذ نهاية الحرب الباردة. وفرصة أخيرة كذلك للانفصاليين الأوكرانيين الموالين لروسيا فى شرق البلاد فى عدم التعويل أكثر على الدور الروسى فى الأزمة، ومن ثم رفع سقف المطالب إلى ما هو أبعد من الحصول على الحكم الذاتى فى إطار الدولة الأوكرانية، علما بأن موسكو لا تريد الانفصال لجمهوريتى دوينتسك ولوجانسك، حيث لم تعترف بهما رسميا حتى الآن، على عكس الاعتراف السريع والواضح بجمهوريتى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008، ثم شبه جزيرة القرم العام الماضي، فاحتمالات حدوث مثل هذا السيناريو الآن يبدو نوعا من الخيال، رغم كونه السيناريو الأمثل للجميع. ومن هنا، يبقى خيار نجاح اتفاق مينسك هو الخيار الأفضل للجميع، لأن العكس لن يتحمله أحد، وهذا النجاح يبقى رهن إرادة أطراف الأزمة وقدرتهم على القفز فوق عقبة "الانقسام"، بل والقدرة على تقديم التنازلات "المؤلمة" قبل تفضيل اللجوء للخيارات الصعبة، لا سيما فى ظل تحذير ميركل عقب القمة من أن "عقبات كبري" لا تزال قائمة أمام تسوية شاملة للنزاع. ولا ننسى أن الخلافات والانقسامات ظلت سيدة الموقف حتى موعد ميلاد تفاهمات مينسك، فهذا السيناتور الأمريكى جون ماكين يوجه انتقادات حادة للسياسة الأوروبية تجاه الأزمة واصفا إياها ب"سياسة الترضية"، ويتهم ميركل - فى مقتطفات من مقابلة مع القناة الثانية فى التليفزيون الألمانى "زد. دي. إف" ب"التقاعس" عن حسم الأمور، لا سيما بعد إعلانها أن ألمانيا لن تسلح أوكرانيا لمحاربة الانفصاليين، مؤكدة أن بلادها تفضل الحلول الدبلوماسية مثل التهديد بتشديد العقوبات إذا ساء الوضع. ووجه ماكين السؤال لميركل : "هل تريدين الجلوس فقط أمام مشاهدة كيف يتم تقسيم دولة فى أوروبا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية"؟!. وفى رد فعل سريع على تلك التصريحات، طالب بيتر تاوبر الأمين العام للحزب المسيحى الديمقراطى الذى تتزعمه ميركل "ماكين" بالاعتذار، وكتب على موقع التواصل الاجتماعى "تويتر" : "من حسن الحظ أن لدينا مستشارة تتدبر تصريحاتها وأفعالها ولا تتصرف مثل راعى البقر! على ماكين أن يعتذر"، الأمر الذى دفع جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى إلى نفى حدوث أى خلاف فى المواقف ما بين واشنطن وأوروبا حول الأزمة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد شب خلاف فى الداخل الأمريكى نفسه قبل اتفاق مينسك بين آشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكى "المحتمل" المقبل والبيت الأبيض حول مسألة تسليح الجيش الأوكراني، حيث أعلن كارتر خلال جلسة استماع فى مجلس الشيوخ أنه يؤيد تزويد الولاياتالمتحدةلأوكرانيا بالأسلحة فى حربهم ضد الانفصاليين، لكن البيت الأبيض سارع إلى التقليل من شأن تصريحاته، مؤكدا أن البت فى هذه المسألة هو من اختصاص الرئيس وحده. وحتى على الصعيد الداخلى فى أوكرانيا، أسهمت تطورات المعارك الضارية بين الجيش الأوكرانى والانفصاليين فى الكشف عن اختلاف وجهات النظر تجاه الأزمة ما بين الرئيس بيترو بوروشينكو ورئيس الوزراء أرسينى ياتسيونيك، حيث اتخذت الحكومة قرار فرض حالة الطواريء فى المناطق المتنازع عليها فى الشرق، وهو ما يخالف الدستور الذى ينص على أن حالة الطواريء يفرضها رئيس البلاد فقط. وفى الوقت نفسه، خرج المئات من المتطوعين المشاركين فى الحرب للمطالبة بإقالة الرئيس بوروشينكو فى مظاهرة بالعاصمة كييف، معلنين سخطهم على أحوال الجيش نظرا لنقص الأسلحة والعتاد فى مواجهة الانفصاليين، الأمر الذى دفع بالرئيس الأوكرانى إلى تجديد طلب بلاده الدعم العسكرى فى مواجهة ما وصفه ب"العدوان" الروسى على أوكرانيا، وتساءل بوروشينكو - فى سياق كلمته أمام مؤتمر ميونيخ - ملوحا بجوازات سفر روسية فى أيديه : "إلى كم من الأدلة لا يزال العالم يحتاج كى يقر بالحقيقة الواضحة بوجود قوات أجنبية فى أوكرانيا"؟ وهكذا، سيكون إنجاح اتفاق مينسك مريحا لجميع الأطراف المنقسمة، أما فشله فيفتح الباب أمام مزيد من هذه الانقسامات، ويشعل صراعا تمتد آثاره إلى ما وراء حدود أوكرانيا بكل تأكيد.