حينما تتحول ريشة الفنان الي سيمفونية عشق لبلد ما تبعد عن موطنه الاصلى مئات الأميال ، تفصله عنها بحار ومحيطات ، تختلف عن بلاده من حيث درجة الحرارة والمناخ والعادات والتقاليد والطقوس الحياتية والتاريخ والجغرافيا ، ولكنه يرسم أهلها بحب وتنطق لوحاته بالفرحة والسعادة وتشع ألوانه بهجة وحياه ، يرسم اللوحة فتتحول الي صورة ناطقة بالحدث والموقف والمكان الذي حدثت به . حكاية هذا الأسبوع عن أحد هؤلاء المتميزين وهو الرسام الانجليزى لانس ثاكراى Lance Thackeray الذى زار مصر عام 1899 ورسم العشرات بل المئات من الصور عن مصر المحروسة وأهلها وطقوسهم الحياتية بشكل مبتكر وجميل ومبهج ، وقد ولد ثاكراى عام 1869 فى مدينة دارلنجتون بالمملكة المتحدة أو الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس في عز مجدها وأبوه هو توماس ثاكراى وأمه سيلينا نيش ، وتميز الطفل الصغير بحبه للرسم والألوان وخصوصاً الاسكتشات أو اللوحات الأقرب للرسوم الكارتونية ذات الألوان المبهجة وما لبث أن برع في هذا النوع من الفن حتى أنه كان من الأعضاء المؤسسين لنادى لندن للرسوم والاسكتشات الذى ضم صفوة من رسامي هذه الفترة الذين إشتهروا فيما بعد وبيعت لوحاتهم بأثمان مرتفعة وعندما بلغ الثلاثون من العمر جذبته أخبار مصر المحروسة بلد ألف ليلة وليلة كما كان يتم الترويج لها فى هذه الفترة فى أوروبا بحسب ما نقله عنها المغامرين والرحالة وسارقى الآثار والفنانين والباحثين عن الثراء والشهرة ، فجذبته أخبارها وأسرار مقابرها الفرعونية وملوكها واهراماتها فقرر زيارتها وبالفعل شد الرحال اليها وما أن وطأت قدماه أرض المحروسة منذ نزوله من ( الوابور ) السفينة التي كان يركبها حتي وقع في أسرها وشده سحرها ورأي فيها ما لم يره غيره من الرسامين والفنانين الذين زاروها من كل أنحاء العالم والذين لم يلفت نظرهم فى مصر سوى طالبوا البقشيش حتى أن أحدهم رسم لوحات كثيرة تم طبعها علي كروت بوستال بعنوان « بقشيش « رسم فيها ابو الهول يصرخ في السائحين طالباً للبقشيش وكأن كل من في مصر كان يتسول البقشيش من الزائرين والبعض الأخر لم يرى سوى الفقر والقذارة والذباب ، كما إشتهرت مجموعة كروت بعنوان « معلهش « وكإن هذه الكلمة هى المفتاح السحرى لحل كل الأزمات والمشاكل في إشارة الى أن تراجع دور مصر وعدم تقدمها سببه عدم تحمل كل مواطن لمسئولياته ، ثم جاء ثاكراى الى مصر فجاءت معه البهجة فلم ير فى مصر المساؤي والعيوب فقط بل أحب مصر ودرس شعبها فجاءت لوحاته صادقة ومعبرة عن الواقع المصرى بكل عيوبه ومميزاته بريشة أنيقة ، ساخرة فى أدب ، تدخل القلب بدون إستئذان ، وبالفعل تكررت زياراته لمصر أنجز خلالها المئات من الصور والاسكتشات ما بين ملونة ورصاص أو فحم Gravure وجاءت لوحاته عن أهم الشخصيات التي التقاها خلال زياراته المتعاقبة واشهر المهن في ذلك الوقت ومنها مهن غريبة كانت معروفة واندثرت مع تقدم الزمان مثل العامل الذى يقوم بإضاءة اللمبات والدراجومان أو الترجمان الذى يرافق السائحين بجلبابه الطويل وضخامة جسمه وسفرجي فندق شبرد بالملابس المميزة لسفرجية الفنادق الكبرى والحمّار وبائعة الفاكهة والقرداتى والملاح والعربجى أو سائق الحنطور وغيرهم الكثيرون وقد تم جمعهم فى كتاب إسمه ناس من مصر أو The People of Egypt وهذا الكتاب يتسم بالصدق والإحترام لكل المهن المصرية وخاصة الفقيرة والبسيطة منها . ويقول الكاتب الانجليزى أندرو همفريز أن هذا الكتاب تم نشره عام 1910 وكان ثاكراى قد قام عام 1908 بإعداد 36 لوحة أخرى لمشاهد من مصر إختلفت تماماً عما رسمه الفنانون الآخرون فقد رصد حال المصريين مثل راكبي عربات الكارو من السيدات وهن يصرخن عندما يقف الكارو على شريط الترمواي أو العفريت الكهربا فى ذلك الوقت ومشاهد لصعود السائحين للهرم الأكبر بمساعدة الدراجومان وهم يدفعونهم من اسفل ويشدونهم من أعلى فى مشاهد مضحكة ورسوم لسائحين فى رحلة الى الاهرام والحمار يكاد يئن من ثقل السائحة حتي سقط فى النهاية صريعاً ومشاهد للاسواق وزيارات المعابد والإقامة فى الفنادق وشرفة فندق شبرد الشهيرة والمساومة فى الشراء وقد تم تجميع هذه اللوحات فى كتاب أخر بعنوان « الجانب المضئ من مصر « The Light Side of Egypt ويضيف همفريز أن ثاكراى إنتقل في فترة من حياتة للعمل في لندن والتحق بشركة متخصصة فى الكروت البوستال الكوميدية Raphael Tuck & Sons رسم لها مئات الصور والرسوم المميزة ، الطريف إن هذه الشركة طبعت رسوم هذا الفنان في شكل مبتكر فقد قسمت الكارت الى قسمين ، الأكبر ويحكى فيه القصة وهى صورة السيدة الثمينة وهى تركب على الحمار النحيف الذي يئن من فرط ثقلها ثم فى الجزء الآخر وهو الأصغر صورة للسيدة بعد ان نزلت من على ظهر الحمار الذى خر صريعاً وهى تجربة جديدة وفريدة فى عالم الكروت . وتتوالى السنوات ويلتحق الفنان بإحدى أفرع الجيش الانجليزى ثم يلقى حتفه عام 1916 بعد عودته الى بلده عن عمر يناهز ال 47 عاماً مخلفاً وراءه كنز من روائع الرسومات واللوحات الراقية التى يستحق أن نرفع له القبعة عليها ... ومازال كتابيه يلقيان من الاهتمام والسعر العال إذا تم عرضهما فى أى معرض للكتب الاثرية والنادرة .... والله على لانس ثاكراى ولوحاته عن مصر زمان .