كما هى العادة فى الأنظمة الفاشية، انطلقت الأبواق تبرر القبض على صحفيين ورجال شرطة وفنانين، فعلى شاشات وصفحات تابعة وموالية للحزب الحاكم ، راحت جوقة المنتفعين بدولة الفساد تعزف بحناجر زاعقة مؤكدة وجازمة أنه لا علاقة، لرئيسهم حبيب الشعب ، بمداهمات الأمن الذى ينفذ القانون ولا شىء غيره، حتى الحكومة بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب. هؤلاء لم يكتفوا بذلك فذهبوا إلى ميديا الخارج يكررون ذات المقولات وينددون بالأشرار الذين يريدون تلطيخ سمعة البلاد وقائدها الهمام، غير أن الشىء المثير فى تلك الأجواء الضبابية، أن من أرادوا إبعاده عن المشهد القمعى أعلن أنه وراء تلك الهجمة البوليسية ، التى لن تكون الأخيرة باعتراف رئيس وزرائه، ويالها من مفارقة أن يندد بحكام فى الجوار قمعوا شعوبهم وحرموهم من الحرية، فى حين يفعل الأمر ذاته وإن اختلف فى التفاصيل. ثم متجاوزا طبيعة منصبه الشرفى والرمزى ، ليستبق التحقيقات قبل أن تبدأ، ويصدر التعليمات بانعقاد المحكمة فورا وكونه القاضى الوحيد فلا داعى لوجود عضوى اليمين واليسار، وفى نهاية الجلسة التى لم يحضرها المتهمون أو دفاعهم أو حتى ممثل الادعاء، أصدر الأحكام المشددة غير قابلة للطعن، ألم يكن هو من وصف بعض القضاة بالخيانة داعيا إلى إقصائهم والزج بهم خلف القضبان ، مع العلم أن معظم أركان السلطة القضائية باتت ملك يمينه .
ودون مواربة أعلن الحرب ضد قوى الشر وكأنه يعيد سيرة الرئيس الأمريكى بوش الابن فى مستهل الألفية الحالية استعدادا لغزو العراق، الفارق أن ما يشنه السيد إردوغان ليس دفاعا عن مبادئ أو حربا ضد إرهاب محتمل، بل هو صراع لتكريس قبضته الحديدية، وفى نفس الوقت الإطاحة بكل من يريدون مقاسمته الغنائم حتى لو كانوا فيما مضى من داعميه ومناصريه.
أذن يمضى الرئيس الثانى عشر ليرسى أسطورة الرجل الواحد فى تركيا الجديدة التى لم تعد لا كمالية ولا حقوقية، والأهم من هذا وذاك، هو أن الديمقراطية ضاعت منها أو على الأقل هى فى الطريق نحو النفق المسدود، ومع نزوعه إلى السلف العثمانى الثيوقراطى أعطى لنفسه الحق فى التدخل بشئون الآخرين، لكن هؤلاء ممنوع عليهم حتى إبداء الامتعاض، وإلا فهم متآمرون ، وحتى تكتمل صورة من طغى وتكبر ها هم معاونوه يباركونه ويشكرون الله لأنه وهب بلادهم زعيما مثله، ومن قاعة البرلمان أرسلوا التحيات العطرة والاحترام له، حيث يوجد فى قصره المنيف الذى دشن بمال البسطاء من أهل الأناضول .
وطبيعى أن يجزل لهم العطايا امتنانا لولائهم وتفانيهم، ووفقا لتسريبات، قيل إن هناك مشروع قانون تم الانتهاء منه، يمنح النواب بمقتضى بنوده، امتيازات جديدة تشمل استخراج جوازات دبلوماسية لهم ولأسرهم مدى الحياة، أيضا سيمنحون ميزة تفضيلية وأولوية لسياراتهم أثناء السير فى الشوارع المزدحمة مشابهة لسيارات الإسعاف والشرطة وفرق إطفاء الحريق، فضلا عن تغيير بنود البروتوكول لكى يأخذوا أماكنهم بالمراسم الرسمية بعد القادة العسكريين والمحافظين مباشرة.
ومع كل ذلك ، فالأرض ليست ممهدة، بل على العكس تميد من تحت أقدامه، بيد أن سطحها لم يعد قادرا على كبح جماح براكين تنتظر لحظة إطلاق حممها ونيرانها، فكلما أراد إحكام قبضته أكثر على الوضع المتردى سرعان ما ينفلت من بين يديه، وهذا ما يعرف فى السياسة والعهدة هنا على الكاتب يافوز بأيدار بقانون مورفى ( نسبة إلى الأمريكى إدوار مورفى فى أربعينيات القرن الماضى) فعندما تختار أن تعيش فى وهم العظمة من خلال الإعلان عن نفسك " أنا ، الأعلى يكون هذا دائما بداية النهاية ".
صحيح هناك من يخشى البطش، خاصة أن أبواب السجون مفتوحة على مصراعيها يمكنها التهام المناوئين ، لكن فى المقابل ثمة قطاعات متنمرة لم تعد ترى أملا فى السائد ، ومن ثمة فلا مفر من المواجهة، ورغم الآلة الإعلامية الموالية، التى هللت للاعتقالات، خرجت أصوات معلنة رفضها، وداعية فى تحدى الصامتين من ابناء مهنة القلم للاستنهاض ، وإلا سيأتى الدور عليهم قريبا جدا.
هذا ما جاء على صفحات جريدة " طرف " اليومية، وفى افتتاحية لها عنونتها " هكذا بدأ هتلر أيضا " خاطبت المجموعات التى سكتت على الظلم والأساليب غير القانونية التى مورست ضد المعارضين، وأعادت إلى أذهانهم العبارات الشهيرة لعالم اللاهوت الألمانى " فريدرك جوستاف إميل مارتن نيمولر " ورغم إنها قيلت قبل خمسة وسبعين عاما ، إلا أن الصحيفة وجدتها تتطابق مع هذه الأيام التى تعيشها تركيا فى حقبتها الإردوغانية وتصفها وصفا دقيقا.
إنها قصيدة " أولا جاءوا " وفيها : فى ألمانيا أولا جاءوا للشيوعيين ، لم أبال لأننى لست شيوعيا ، وعندما اضطهدوا اليهود لم أبال لأننى لست يهوديا، ثم عندما اضطهدوا النقابات العمالية لم أبال لأننى لم أكن نقابيا، بعدها عندما اضطهدوا الكاثوليك لم أبال لأننى بروتستانتى ، وعندما اضطهدونى أنا .. لم يبق أحد حينها ليدافع عنى " وبعد هذا السرد وجهت الصحيفة تحذيرا للمجموعات الإعلامية الأخرى التى تجنبت التعليق على ما حدث ل ” زمان” من أنها سوف تتعرض للمصير ذاته الذى لفت إليه مارتن نيمولر فى قصيدته ولن تجد من يقف بجانبها.
لكن هذا لا يعنى فى المقابل صك براءة للخصوم، خصوصا الداعية جولين وأنصاره ، فأثوابهم ليست ناصعة أبدا ، وكم هى الشواهد التى تدينهم جميعا وتوصمهم بالعار.
فقبل صعود إردوغان للحكم كانت الوشائج بينهما متينة، وبعد تولى الأخير منصب رئيس الوزراء فى عام 2003 تعمقت لتنتقل إلى تحالف إستراتيجى، شاركا معا من خلاله فى الانقضاض على قيادات الجيش ومعهما رتل من الكتاب والصحفيين، ورغم خلفيتهما الإسلامية ، سمحا بتلفيق التهم ضد ما وصفوها بالدولة العميقة، فيما عرف بمؤامرة الانقلاب ضد الحكومة، وعندما تعارضت المصالح انقلبا ليصبحا أعداء وليزجا بالبلاد فى صراع، الضحية فيه هو الشعب الذى أصبح مطالبا بأن يستعيد تركيبته الكمالية الحقوقية .. أى حريته .