لا يكتمل أى عرض مسرحى إذا خلا من عنصر الموسيقى لأنه في هذه الحالة سيكون أجوف بلا نبض.. ولكن الأمر مع الموسيقار عمر خيرت مختلف تماما فقد جعل من بصمته اللحنية مسرحا متكاملا يشع صخبا وعنفوانا ورومانسية ووطنية وسائر المشاعر الإنسانية النابضة بالحياة، وهى حالة فريدة غرست في المصريين البسطاء عشق مشاهدة حفلات الموسيقى والاستمتاع بها في المسارح. عاد عمر خيرت الأسبوع الماضى ليضيء من جديد قلوب عشاقه على المسرح الكبير بدار الأوبرا، بعد شفائه، فكان الاحتفاء به بالغا واستمر التصفيق ما يقرب من 3 دقائق، حتى أنه قال لمحبيه: «دعاؤكم وصلنى.. ربنا يخلينا لبعض».. وما أن بدأ عزفه مع فريقه العالمى حتى ساد الصمت والإنصات.. ولمَ لا وقد بدأت رحلة زلزلة المشاعر، بين أعماله الساحرة: وجه القمر.. خلى بالك من عقلك.. ضمير ابله حكمت.. في هويد الليل.. اعدام ميت.. امرأة.. تيمة حب.. انت المصرى، وغيرها من المقطوعات التى تؤكد أنها ليلة مسرحية من طراز فريد، فقد لمست فيها عنصر الفرجة والتفاعل مع الجمهور كما لم أشاهد من قبل، فما أن يقول خيرت «يالا بينا نغنى» حتى تحول أكثر من 1200 متفرج إلى مطربين يغنون «فيها حاجة حلوة» حافظين كلماتها عن ظهر قلب.. ثم ما لبث أن طالب الجميع بإعادة لحن »الخواجة عبدالقادر« الذى أبدع فيه فريقه بكلمات ابو عبدالله الحلاج : والله ما طلعت شمسٌ ولا غرُبت إلا و حبّك مقرون بأنفاسى ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا و أنت حديثي بين جلاسى وقد وصل عنصر الفرجة والتفاعل أوجه حينما تحول الجمهور إلى مشارك حقيقى في العرض، فما كان عازف التومبا الماهر جدا أحمد الناصر يشير بعلامة النصر للجمهور حتى يصفق الجميع أو يغنون بحسب المعزوفة وتكرر هذا في مقطوعات «قضية عم أحمد».. «البخيل وأنا».. «100 سنة سينما».. «مافيا». ومثلما يسعى الممثلون في المسرح لاستخدام كل ادواتهم في الأداء، فقد قدم العازفون أداءً ولا أروع من خلال حوار خاص جدا دار بين كل منهم وآلته الموسيقية بدءا من قائد الأوركسترا عمر خيرت الذى بدا في تعامله مع البيانو كما لو كان يحتضن وليدا يافعا يداعبه احيانا ويمرح معه تارة ويعنفه تارة اخرى، ثم يتحول البيانو إلى امرأة ساحرة يلاطفها ويغازلها غزلا عفيفا حالما، بينما تنقلت منال محيى الدين بين أوتار الهارب كفراشة رقيقة خاصة في مقطوعة تيمة حب وقضية عم احمد.. ولم تحرمنا نسمة عبدالعزيز من براءتها وشقاوتها وهى تقفز بين اصابع الماريمبا في رشاقة وخفة بأنغام «صابر يا عم صابر».. أما أحمد الناصر فأشعل المسرح في مقطوعتى «مافيا» و«100 سنة سينما» بحيوية أدائه، ثم ابهرنا عمرو ابو النجا وهو يقدم عزفا شرقيا بالغ الشجن والعذوبة على آلة الكورنو، بينما قدم اشرف هيكل صولو او عزفا منفردا لمقطوعة من مسلسل الداعية، وكذلك علاء حسين الذى تنوع في ادائه بين اللعب على العود والقانون الذى سحرنا بأوتاره الشرقية في «انت المصرى» وغيرها.. أنها حقا ليلة موسيقية لم تخل من دراما المسرح حتى أننى كنت اتمنى ان اسمع مقطوعات مسرحية كارمن الشهيرة «المبارزة».. «الحلم التمنى».. و«الليلة» طمعا في الاستزادة من عطاء عمر خيرت اللامتناهى.