كنت قد قرأت قصة دون كيخوتة وطالعت الموقف الذي جمع طائفة من اللصوص قطاع الطرق بعد أن نهبوا ذات يوم وجلسوا يقتسمون, فحدث بينهم خلاف علي طريقة التقسيم, وبدأت المعركة, فجاء رئيس العصابة يستفهم الأمر, فقالوا له: إننا نريد العدل في قسمة الغنائم! اللصوص يريدون العدل فيما بينهم! وهكذا نري القيم الإنسانية العليا أمرا لا خلاف عليه بين الأبرياء وبين المجرمين علي حد سواء. وإذا كان الأمر متقصرا علي فرد بعينه, لوجد هذا الفرد من ضميره ما يهديه إلي الصواب, وحتي إذا خانته إرادته وارتكب جرما, فإنه عندئذ يعلم من وحي ضميره أنه إنما فعل ما لم يكن يجوز له أن يفعله لو أتيحت له القدرة, ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلي الجماعة من الناس, فهنا إذا ما قام أحد بالاعتداء علي القيم الإنسانية العليا فقد لا يتحرك الضمير بالقوة الكافية في هذا الفرد من عامة الناس, وعندئذ ينوب عن الناس الكاتب الأديب والصحفي الأريب, إنه لم يتعرض لظلم أفدح من سواه, ولا لطغيان أكثر مما تعرض له الآخرون, لكنه بحكم تكوينه وعمله تتكون من ضميره ثورة فيعلن الرأي أو يصوغ حقيقة الموقف, إعلانا وصياغة يخرجان ما كان مضمرا غائبا في نفوس الآخرين, أي أن الضمير يتحرك بنفسه نيابة عن سائر الناس. وهذا أبو العلا في زمانه, يعاني ما يعانيه عامة الشعب كله من إضراب السياسة وفساد الساسة, لكن يطول صمت الرعية إلي حين, بينما الأديب والصحفي هما وحدهما اللذان ينطقان بلسانهما عما كانت تود ألسنتهم أن تنطق به لو استطاعت.. فيقول أبو العلا فيما أحسه بين الناس ما يعبر به عما يشعرونه وما يقاسونه شعرا مرة, ونثرا مرة أخري, فيكون بذلك بمثابة ضمير خاص بنفسه, وعام يشمل الناس أجمعين, فها هو ذا يقول ما معناه بلغتنا الدارجة: إن الناس تسوسهم هذه الأيام شياطين مسلطة عليهم هم الحكام الذين يتولون جميع أمورهم, فهؤلاء الحكام لا يعنيهم أن يجوع الناس حتي الموت, ما دامت موائدهم عامرة بأصناف الطعام والشراب ناهيك عما يكنزون من ذهب وفضة, وأن الحاكم لم ينل حكمه إلا عن طريق القهر والعربدة, وحتي أولئك الذين يظهرون الورع والتقوي, فإنما ورعهم ذاك وتقواهم مصائد يصيدون بها المناصب والمكاسب, ألا إني قد مللت العيش في هذه الأمة هكذا يقول أبو العلا بعد ترجمة لغته الأدبية إلي لغتنا الدارجة مللت العيش في هذه الأمة لأنني أري الحكام وكأنهم مكلفون بخرابها لا بصلاحها, فلقد ظلموا الرعية, واستباحوا كيدها, وجاوزوا مصالحها, مع أنهم أجراء هذه الرعية يأخذون رواتبهم من كدحها, إنك إذا قلت الحق اضطررت إلي أن تقوله مهموما وأما إذا نطقت لغوا وباطلا, أقاموا لك المنابر عالية. ولذا يجب علي الكتاب والصحفيين, ونحن بعد عام من ثورة25 يناير أن يكون همهم التعبير عن الاحساس العارم بالشعب وقضاياه ومشكلاته وأحلامه وحتي خرافاته, وعليهم أن يتكاتفوا لضخ الدماء في الشرايين لتؤدي إلي ظهور حركة ثقافية جديدة تؤدي دورها كما كانت في بداية العصر الحديث وامتدت إلي الستينات والسبعينات علي يد الرواد الأوائل ابتداء من رفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك وحفني ناصف وعباس العقاد والمازني وتوفيق الحكيم.